الحقوق السياسية في الاسلام

ملف المادة كاملا على برنامج وورد

(شرح ديباجة تأسيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية
في المملكة العربية السعودية)

(شرح ديباجة تأسيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية

في المملكة العربية السعودية)

الجزء الأول:- الحقوق السياسية في الإسلام:

1=عندما ترد كلمة (حقوق الإنسان):

2=مقتضى عبودية العباد لله حريتهم عن من سواه:

3= الإسلام والاستبداد نقيضان لا يجتمعان

4=قوامة الأمة على الحاكم هي معيار البيعة الشرعية المنسي :

5=الاستبداد هو جرثومة الداء في الدولة العربية الحديثة

 التي لم تركز عليها التيارات  إسلامية ووطنية وقومية واشتراكية:

6=لا يمكن العدل إلا بتطبيق (النظام الشوري) /الحقائق السياسية التسع:

7=-كيف استخدم المستبدون الدين لتطويع الأمة/تحت عبارة تطبيق الشريعة / لا تصح دعوى تطبق الشريعة في نظام  غير شوري:

8=العنف والتطرف أو  المجتمع المدني الإسلامي من خلال سمات ست

9=فقدان  التكتلات المدنية:سهل على (ولي الأمر)انتهاك مبدأ سلطة الأمة؛

10=فقدان  التعددية يفضي إلى  الدولة المذهبية والطائفية القامعة المنتجة لجميع أشكال التمرد والعنف:

11=عمر بن عبد العزيز أعرف بالسنة أم  أصحاب قانون:قمع أهل البدع:

12= كيف قمع العدل و الحرية باسم السلف الصالح وأهل السنة والجماعة

13=هل نحصر تنفيذ مبادئ العدل والشورى على وسائل العهد النبوي والراشدي؟

14-مبدأ سلطة الأمة كان حاضراً ولكن قصر الخلافة الراشدة لم يرسخه:

15-مبدأ استقلال القضاء حاضراً ولكن إجراءه كان غائما:

16=بطلان قياس السلاطين على النبي والراشدين/الفروق السبعة:

17-مأزق الاستدلال الحرفي بالنصوص:

18=بطلان قياس  دولة القمع  العربية  الحديثة على الأموية والعباسية؟: الفوارق الثمان

19=لا ضمان لقيام (حكم إسلامي) اليوم إلا بالفصل بين السلطات

20=والخلاصة أنه لا يمكن أن يصح وصف الدولة الحديثة بأنها إسلامية مالم تكن دستورية، والدليل على ذلك :

21=وللدولة حقوق إزاء تلك الواجبات:

وجوب طاعة أمراء دولة العدل والشورى المنتخبين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

1=عندما ترد كلمة (حقوق الإنسان):

  الحمد لله الذي رفع السماء ووضع الميزان، وبعث أنبياءه لإقامة العدل والقسطاس، والصلاة والسلام على النبي الشوري العادل، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ، الذين سعوا إلى إقامة العدل والشورى وحقوق الإنسان في كل مكان وزمان.

عندما ترد كلمة (حقوق الإنسان)؛يظن عدد غير قليل من الناس، أنها مفهوم  دخيل على الإسلام، وأنها مرتبطة بالعلمانية، وأن الأديان لم تهتم بحقوق الإنسان، وهذا الوهم قد انجر إليه كثير من الناس، متهمين الإسلام بأنه يؤيد الحكم الدكتاتوري المستبد، أو يغض الطرف عن الظلم والبطش،ما لم يغلق الحاكم أبواب المساجد!!، وكأن حقوق الإنسان مفهوم علماني، إنما  أعلنت ميثاقه الأمم المتحدة، بعد ان رسخ مفهومه المفكرون والساسة الغربيون. والحق أن حقوق الإنسان ليست مفهوماً علمانياً ، بل إن الأديان السماوية ولاسيما الإسلام قررتها وأكدتها .

ولذلك صار على دعاة الإصلاح السياسي،  والحريصين على بعث الحضارية  الإسلامية  من جديد، إن يسعوا جاهدين لتجريد الإسلام من ما علق به من آثار الزمان والمكان، خلال ليل الطغيان الطويل.

يجب عليهم إن يجهروا بموقف الإسلام الصحيح من الحقوق المدنية  والسياسية التي عطلها الطغاة، من عدالة وحرية ومساواة ، ويجب عليهم التعاون المخلص مع الذين ألهبت ظهورهم سياط الجلادين، وأهدرت حقوقهم مخالب  الغاصبين، فتحركوا من خلال المدارات الإقليمية والقارية والدولية، للمطالبة بحقوق الإنسان والعمل على الدعوة إليها والتعريف بها .

يجب على الإسلاميين اليوم كشف قناع الاستبداد والطغيان الذي أذل الإنسان, باسم الإسلام وإعلان موقف الإسلام المشرف، وبيان براءة الدين من كل ممارسة لوأد كرامة الإنسان.

إن البحث في موضوع حقوق الإنسان؛ كفيل ببيان شرعيتها والتأكيد على أن الأمم والأديان اتفقت على تكريم الإنسان، وعلى أن وحي الشريعة يؤكد ما ألهمه الله عباده في وحي الفطرة والطبيعة.

والمستبدون يسعون إلى توظيف الدين ليكون أداة لهم ينتهكون من خلاله حقوق الإنسان, أو ليجعلوه محايداً بعيداً عن قضايا كرامة الإنسان , ليواصلوا إذلال الأمة واضطهادها، وواجب المصلحين بيان تكريم الله للإنسان، والإعلان بكل لسان وميدان: إن حقوق الإنسان هبة من البارئ الحكيم، لا يستطيع احد أن يسلبها، كما قال بيان المجلس الإسلامي الأوربي،الذي اقره نخبة من علماء الأمة الإسلامية ومفكريها في اجتماع باريس 21/11/1401هـ ( إن حقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة ملك أو حاكم، أو اقراراً صادراً من سلطة محلية أو منظمة دولية ، انما هي حقوق ملزمة ، بحكم مصدرها إلا لا هي ، لا تقبل الحذف ولا النسخ ، ولا التعطيل ، ولا يسمح بالاعتداء عليها ، ولا يجوز التنازل عنها )

من أجل أن تتواصى الأمة،عبر قياداتها ألى أولي الأمر فيها  (عرفائها)في المجتمع المدني الأهلي ، بالحقوق المدنية والسياسية؛ التي نزل بها كتاب الله، ليراجع الناس مناهج حياتهم، وطرائق حكمهم، والعلاقات بين المجتمع وقيادته، مراجعة تفضي إلى احترام هذه الحقوق التي شرعها الله، التي لا يجوز لأي إنسان إن يتجاهلها أو أن يخرج عليها أو يتنازل عنها.

2=مقتضى عبودية العباد لله حريتهم عن من سواه:

لقد منح الله ابن ادم الحياة، وسخر له المخلوقات التي من حوله ليقوم بعبادته ، كما في الحديث القدسي ( يا ابن آدم خلقتك من أجلي وخلقت كل شيء من أجلك )، ومقتضى عبودية العبد لله ، حريته وغناه عن من سواه ، أن لا يخضع إلا لله ، وأن لا يرجو إلا الله ، وان لا يخاف إلا الله ، بل إن الإسلام اعتبر كل شيء يضيق على الإنسان حريته شركاً ، فإذا رجا الإنسان بشراً أو خافه فقد أشرك ، وقد أفاض العلماء في بيان مفهوم الشرك الأكبر والأصغر ، والظاهر والباطن ، وحاصل ذلك أن التنازل عن الحقوق السياسية والانحناء للطغاة، مخل بالتوحيد ، كالطواف حول الاضرحة والأموات .

وذلك إن الإنسان الذي يعبد الله صار بعبوديته لله حراً من سواه ، فأوجب الله على عبيده إن يكونوا أحراراً في تصرفاتهم وأقوالهم حرية كاملة ، مشروطة بلزوم الشريعة، التي هى مقتضى الطبيعة التي تهدي اليها الفطرة السليمة، وكل فطرة فى العقول الناضجة سليمة، فإنما هي فى قانون الشريعة مستقيمة، كما قال تعالى “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، … فطرة الله التي فطر الناس عليها “.

 وعندما نتسمى عبدالله وعبدالعزيز وعبدالرحمن ، فنحن نعلن إننا مماليك الله فحسب، وأنه لا يملكنا أحد سواه ، وأن من سواه اناس عبيد لله مثلنا ، وأن الناس لا ينقسمون إلى أحرار وعبيد، بل الناس كلهم عبيد لله، وهم إذن أحرار أنداد لإخوانهم البشر الاحرار، لا يجوز إن يخرجوا عن هذا التصنيف فإذا خرجوا فقد أخللنا بالعبادة ، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ( لا يقل أحدكم عبدي وأمتي) وليقل فتاي وفتاتي”، أي إن البشر لا يجوز له أن يقبل يستعبد ولا أن يعبد قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب إن المراد من النهي عن ذلك تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ ( فتح المجيد : 456 ).

ولذلك حذر الإسلام الناس من طاعة الأمراء والعلماء الذين يحلون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل واعتبر تلك الطاعة عبادة لهم قال تعالى ” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ” ، كما وضح المفسرون كالقرطبي ولذلك اعتبرت الاستعاذة والاستعانة بغير الله شركاً.

لقد حرر الإسلام الإنسان من القيود التي تحد من عبوديته لله ، وحريته عن من سواه فحرره من القيود التي أرهقت عقله وجسمه ونفسه ، من قيود الطواغيت، من السلاطين والأحبار والمشعوذين والشياطين والعادات البدائية فقال تعالى ” ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم ” (الأعراف: 157).

وإقرار  الإسلام للحريات إقرار منه لإنسانية الإنسان ، فأقر لغير المسلمين بالتمتع بحرياتهم ، ( الشياشاني : حقوق الإنسان : 308 ) بينما لم يعترف اليهود بالنصرانية والإسلام ، ولم يعترف النصارى باليهودية والإسلام  .

وبينت نصوص التشريع الإسلامي ، أن المقصد من وضع الشريعة كما نص الشاطبي هو ” إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختياراً كما هو عبدا لله اضطراراً” ونص العلماء على ضرورة حفظ حقوق الإنسان الستة : دينه وماله وعرضه ونسله وحياته وعقله، التي لو لم تحفظ لاختل نظام الحياة الإنسانية، وانقلبت أحوال الناس من الصحة إلى الفساد ، وآب الناس بالخسران العظيم في الدنيا والآخرة. لأنه بحفظ هذه الأمور يشيع العدل بين الناس، وبالعدل يصلح العمران وتسود الطمأنينة بين الناس، وإهمالها يؤدي إلى خراب العمران .

 

3= الإسلام والاستبداد نقيضان لا يجتمعان

عندما نفصل فقرات العقيدة في الجانب السياسي، لا بد أن نعتمد على صريح نصوص الكتاب والسنة، مستعينين- في فهم ما هو غير صريح أو مفصل-  بحقائق السياسة والاجتماع والحضارة والتاريخ، ومستشهدين بمواقف عموم الفقهاء الأمويين الأحرار، الذين قاوموا المافيا السياسية، ومعتضدين بآراء الفقهاء الأحرار(النوادر) من سلف الأمة في العهد العباسي، كابن تيمية وابن عطية والنووي والشاطبي، ومستشهدين بنظريات فقهاء السلفية المدنية،كالأفغاني والكواكبي وخير الدين التونسي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، والمودودي وسيد قطب ومحمد الغزالي.

لا إسلام من دون دولة إذ لا يمكن قيام (المجتمع الإسلامي) إلا في ظل دولة تحكم بالإسلام ولا يمكن تبعيض الشريعة، وأخذ بعضها وترك بعض، فالإسلام منظومة متكاملة، وتطبيق بعضها دون بعض، هو الذي جر إلى انسداد الأفق وشيوع الطغيان والاستبداد، الذي أوجد أقليات مستأثرة بالسلطة والثروة والنفوذ، وأكثرية من الجوعى والمحرومين والمستضعفين، من ما يعرض البلاد إلى الكوارث والشقاق.

     إن أحادية السلطة المطلقة تفضي حتماً إلى مفاسد شتى “والاستبداد جرثومة كل فساد” كما قال الكواكبي, والاستبداد استعمار داخلي لا يقل خطورة عن الاستعمار الخارجي, لأن الناس يتقبلونه باسم الوطنية أو باسم القومية أو الإسلامية, تحت شعار الصلاة خلف الإمام الجائر, وهو وباء يفتك بهم شيئا فشيئاً,حتى يسلمهم إلى الاستعمار والإمبريالية, وهم لا يشعرون بوطأته أول وهلة، من أجل ذلك فإن الإسلام والاستبداد؛ نقيضان لا يجتمعان، كما قال محمد الغزالي، فالطغيان من نواقض الإسلام، وهو مخل بشهادة التوحيد، كما يدل عليه ما قرره المفسرون في تفسير آيتي سورة التوبة، وعقد الإمام محمد بن عبدالوهاب لتفسيرهما فصلا في كتاب التوحيد، لأن الاستبداد يؤدي إلى ((وثنية سياسية عمياء)) كما عبر المفكر محمد الغزالي، وذلك إخلال صريح بالإيمان.

الاستبداد والطغيان وثنية سياسية مخلة بشق الشريعة المدني، كما أن الطواف حول الأموات وثنية روحية مخلة بشق الشريعة الروحي، كلاهما مخل بالتوحيد، والطواف حول الطغاة، أخطر من الطواف حول الرفات. وكل الأمرين حذر منهما الرسول صلى الله عليه وسلم فحذر من الإخلال الروحي بالتوحيد في ما رواه أبو هريرة “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فسأله الصحابة: “اليهود والنصارى؟” قال: “فمن؟” (أخرجه مسلم).

لقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخلال السياسي بالتوحيد في ما رواه أبو سعيد الخدري: “لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فسأله الصحابة: “فارس والروم؟” قال: “فمن؟” (أخرجه البخاري).

قال ابن حجر: “حين قال”: فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية. وحين قيل: اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات وأصولها وفروعها”.

 إذن لا يجوز أن يوصف أي حكم بأنه إسلامي إذا أخل بأصول الدين الثلاثة: العدل والشورى الملزمة والحرية السامية.

 وهذا الحديث تتأسس عليه قاعدة تقسيم العقيدة شقين: مدني وروحي،  وقاعدة: الشورى أهم أركان العقيدة في شقها المدني، كما أن الصلاة أهم أركان العقيدة في الشق الروحي.

 وهذا التقسيم يبرز مسألة الدستور والمجتمع المدني الأهلي. وأثرهما في لجم الطغيان. وأنهما من أصول العقيدة. لأن الاستبداد يعيث بالناس، كما يفتك مرض السكري بالبنكرياس, وباختلاله تمرض جميع الحواس, فلا يصلح اقتصاد ولا تربية ولا تعليم ولا تجارة ولا زراعة ولا صناعة, لأن السير في سكة الاستبداد, لا يمكن في سنن الله الاجتماعية, إلا أن يلقي المجتمع والدولة معاً, في هاوية الخراب والفساد, إنه يفضى إلى الظلم, الذي يسقط جدران الحصانة الداخلية, فتنهزم الدولة الإسلامية الجائرة, أمام الدول الكافرة, كما أشار ابن تيمية وغيره “إن الله ينصر الدولة العادلة الكافرة, على الدولة المسلمة الجائرة”.

 فلا غرابة إذا قلنا إن الطغيان من نواقض الإسلام. ولأن الأمة عندما تبايع الحاكم، فنقول نبايعك على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. تعنى أحكام الشريعة عامة، والعدل خاصة. هذا المعنى نص عليه عمر بن الخطاب، فكان إذا ولى أميراً، كتب في عهده “اسمعوا له وأطيعوا ما عدل فيكم” (حديث موقوف صحيح، انظر السنة للخلال)…وأحادية السلطة المطلقة تفضي حتماً إلى مفاسد شتى “.

4=قوامة الأمة على الحاكم هي معيار البيعة الشرعية المنسي :

ماذا تعني عبارة (البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)؟

 إن صيغة البيعة الشرعية الشائعة: نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. تقتضى مسائل عشرا مقصودة قصداً أصليا، لا يشكك فيها إلا غافل عن مفهوم العقيدة السياسية الإسلامية، أو متغافل:

القاعدة الأولى:سلطة الأمة وسيادتها وقوامتها على النظام السياسي

والأمة هي المخولة بتقرير الوسائل المناسبة لتحقيق مقاصد الشريعة, كما هو مقتضى الخطاب القرآني: أيها الذين آمنوا، بدلاُ من يا أيها الحكام أو الفقهاء (كما شرح عدد من فقهاء الفكر السياسي في الإسلام) وكما نص الإمام بن تيمية ((الأمة هي الحافظة للشرع وليس الحاكم )) إذن هي المخولة بتقرير مصالحها. وهي صاحبة القوامة.ان (القوامة)  إنما هي للأمة على الحاكم. هذا ما دل عليه القرآن دلالة قطعية-بأدلة صريحة وأدلة مستقرأة-هو الأصل في الشريعة, فالقرآن لم يخاطب السلطان مرة واحده, إنما خاطب الأمة. الأمة هي المكلفة بحفظ الشريعة, لا الفقهاء. ولا الأمراء، كما نص أبن تيمية.

  السيادة والسلطة للأمة، فالله لم يوكل القيام بالشريعة، لأي فرد غير الأنبياء، وإنما ذلك للأمة، الأمة هي المخولة بتقرير الوسائل المناسبة لتحقيق مقاصد الشريعة, كما هو مقتضى الخطاب القرآني: أيها الذين آمنوا، بدلاُ من يا أيها الحكام أو الفقهاء.  إذن هي المخولة بتقرير مصالحها. وهي صاحبة القوامة.

القاعدة الثانية -العلاقة بين الحاكم والأمة تعاقدية مبنية على التراضي:

 العلاقة بين القيادة والمجتمع هي علاقة تعاقدية, هي (ميثاق) أو (عقد) يقوم على الرضا والاختيار, والتعاون وتوزيع الأدوار, ليست علاقة بين (مالك) يملك عبيدا أو(راع) يسوق (رعية) تجري خلفه, كالقطيع الذي وظيفته أن يسمع ويطيع, ولا بين (حاكم) ومحكوم عليه, بل هي عقد بين وكيل وموكلين.

 والعقود عادة تفرض على كلا الطرفين, حقوقاً وواجبات, حسب ما نص عليه العقد, أو حسب الأعراف والعادات التي دلت عليها الفطرة والخبرة, فالعقد بين المكتب العقاري ومجموعة من الراغبين في إنشاء مساكن، يلزمهم بدفع الثمن, ويلزم المكتب العقاري بتخطيط الأرض وتجهيزها, وبنائها سكناً للمساهمين, وتأمين كل ما يلزم الساكنين, وعقد البيعة في الإسلام، يقوم على الكتاب والسنة، ومقتضاها قوامة الأمة، وطاعة الحاكم أولى الأمر، أصحاب الشورى ذوي الرأي الثاقب وأهل الحل والعقد، وهذا المعنى ثابت في الفقه السياسي الإسلامي, على امتداد العصور.

وليست علاقة القيادة بالمجتمع اتفاقاً بين رئيس أعلى يظهر بصورة ملهم أو وصي, ومرءوسين يشكلون طبقة دنيا, بل بين إدارة سياسية وأعضاء مواطنين, والمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات, وإن لم يتساووا في الذكاء والغنى والجاه والقوة، وتأسيس هذا المعنى تدل عليه نصوص قرآنية عامة وتطبيقات نبوية وراشدية قاطعة, وكلمات صريحة كالحديث الشريف “أنا ابن أمراة كانت تأكل القديد” وقول عمر رضي الله عنه “إنما أنا كالخادم في مال سيده” وتجسده تطبيقات الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، في رعاية العدل والشورى وحقوق الإنسان.

 فالحاكم السلطان وكيل عن الأمة في حراسة الملة وسياسة الدولة، لحفظ أمن الناس وأموالهم وأعراضهم.موقع الحاكم في الإسلام، أنه وكيل عن الأمة لا عليها, يدير شئونها, بناء على ما هو مصلحتها، ومقتضى الوكالة رفض استخدام الوكيل القوة المادية، أداة للوصول إلى السلطة أو أداة للاحتفاظ بها.

أن مفهوم ولي الأمر، عندما يطلق على الحاكم مختلف عن مفهوم ولاية الآباء على الأبناء، ولاية الأوصياء على السفهاء، ولاية الوكلاء على الأيتام. إنما هو والٍ ولاه الناس عليهم أميراً ومع أن هذه بديهية في فقه السياسة.

وإن وجد من فقهاء الخطاب الديني المحرف من برر التخلف السياسي، فقال بأن الحاكم وال لا ينعزل إذا لم يعزل نفسه، لأنه حاكم عنهم بالولاية لا بالوكالة. بل كولاية الأب على ابنه القاصر فليس للأبناء الصغار ولا للسفهاء أن يعزلوا وكيلهم (انظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المرداوي الحنبلي 10/310). ومقتضى ذلك، ويجب أن يكون وكيل الأمة عدلا  كفيا: فلا دولة من دون سلطان ذي كفاية وعدالة. فالتفريط في شروط كفاية الحاكم وعدالته أعظم مداخل اختلال الدولة والملة.

القاعدة الثالثة:الحاكم وكيل (أدنى)للأمة لا وكيلا(أعلى) عليها

مقتضى العقد السياسي بين الحاكم والشعب-الذي يسمى في فقهنا السياسي الإسلامي- عقد البيعة، أن الحاكم وكيل للأمة لا عليها، كما صرح بذلك عموم الفقهاء، وللأمة التي  تعين وكيلها أن تراقب أداءه وقيامه بأعباء الوكالة، وأن تحاسبه، وأن تعزله إذا أخل بعقد الوكالة، كما صرح ابن عطية.

 فشرعية السلطة مرتبطة بكونها وكالة عن الأمة، لا وكالة عليها، ومقتضى الوكالة مشاورة الوكيل موكليه، وقبوله مراقبتهم ومحاسبتهم، كما حكى عنهم النووي في (شرح صحيح مسلم:4/76)..

  القاعدة الرابعة: شورى أهل الحل والعقد [النيابية] هي الفيصل بين حكم (إسلامي) وحكم (كسروي صحراوي) 

ومقتضى عقد البيعة التزام السلطان برأي الأمة من خلال الشورى الملزمة، التي تجسد مبدأ (مرجعية) الأمة كما هو مقتضى قاعدة ابن تيمية الشهيرة”الأمة هي الحافظة الشريعة لا الحاكم. وكما نص على ذلك الرازي والنيسابوري، في تفسير آية أولي الأمر في سورة النساء.

 ولا يمكن للأمة في الأماكن المتباعدة والمدن المزدحمة, أن تلتقي بصفة دورية لتقرير مصالحها, ومن أجل ذلك تنتخب (نواباً) عنها, وتقرر الأمة مصالحها عبر ممثليها, من الذين يجمعون بين ثلاث صفات: القوة المعرفية, والاخلاقية والاجتماعية, أي أهل العلم والرأي الثاقب والحنكة, والنصح للأمة والإيثار والشجاعة, والذين يبلورون إرادتها.

فتقرر الأمة مصالحها من خلال عرفائها وهم (أولو الأمر) في القرآن، وهم (أهل الحل والعقد) في تراثنا السياسي، الذين أوجب الله على الأمة طاعتهم، وهم (العرفاء) في الأدب النبوي والجاهلي، ومقتضى طاعتهم أمران:

الأول: انتخابهم.

 الثاني: اتباعهم.

 كما هو مقتضى قول عديد من التابعين في تفسير آية أولى الأمر, ولاسيما قول أبن كيسان، وكونهم مناط (إجماعها) وتتشكل من خلالهم مرجعيتها في حراسة الملة وسياسة الأمة، كما قرر هذا المفهوم النيسابوري والفخر الرازي, في شرح آية(ألي الأمر) إذ قرر مفهوم سلطة الأمة، المسلمة على حكامها, وأقره محمد عبده و رشيد رضا أو بنيا عليه مشروعية مجلس النواب، والتجمعات الأهلية المدنية، وعليه جرى فقهاء الفقه السياسي الإسلامي في العصر الحديث، وعبروا عنه أهل (القانون الدستوري).

أن الأمة إنما تقرر مصالحها من خلال (عرفائها) أهل الرأي والتدبير والخبرة والإقدام والإيثار، لا خصوص الفقهاء، ليكونوا هم أهل الحل والعقد.في المجتمع الشعبي، الذين تثق بهم، وهم يجسدون مرجعيتها وإجماعها وهم أولوا الأمر في الأمة، ((بالمفهوم الراشدي لا العباسي)) هم الذين  يستنبطون  الأمور الخوافي, كما يستنبط حافر البئر الماء، من مسارب ألأودية الجوفية تحت الأرض، كما ذكر عدد من المفسرين في تفسير آية الاستنباط ((لعلمه الذين يستنبطونه منكم)) وتفسير آية الطاعة ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)), كما نص النيسابوري و الفخر الرازي ومحمد عبده ورشيد رضا.

وأن الأمة هي التي تقرر مصالحها، وأمور التربية خاصة، وكيفية موارد مالها وطرق صرفه، وحربها وسلمها وليس للسلطان أن يفتأت عليها.

الأمة هي الأدرى بمصالحها، عبر عرفائها وخبرائها، الذين تقدمهم أمامها، تتعرف على مصالحها، وتراقب أداء حكامها وتحاسبهم، و أن السلطان ليس أدري من الأمة بصالحها.

 إن هذا المبدأ لا يؤسس لمشاركة الأمة السلطان في اتخاذ القرارات الهامة فحسب، بل يؤكد صدور القرارات من ممثليها، الذين وثقت بهم فقدمتهم.

القاعدة الخامسة: إلتزام الحاكم  بتفيذ رأي أهل الحل والعقد:

 وقد أكد ذلك جمهور الفقهاء، وصرح بمقتضاه ابن عطية الأندلسي عندما قال: إن الحاكم الذي لا يشار، يجب عزله, وهذا ما أشار إليه أسلافنا, عندما قالوا عن عمر بن عبدالعزيز: إنه صار خليفة شرعياً عندما شاور وعدل.

 ومقتضى ذلك أن لا يطاع السلطان، إلا إذا أطاع هو أهل الحل والعقد. من أجل ذلك لا يجوز للحاكم الافتئات على إرادة الأمة،  ويجب عليه الالتزام بالشورى الشعبية النيابية، من خلال الالتزام برأي أهل الرأي والخبرة والعقل الذين يجسدون نبض قلب الشعب، وومض عينيه، المفوضين من قبله ليكونوا أهل العقد والحل.

والدولة حارسة، بقيامها بصيانة الملة من التبديل والتحريفات، وترسيخ القيم النبيلة، وحماية الأمة و الدولة من العدوان والاختراق الخارجي، ولصد أي اختراق تربوي أو اقتصادي. ويجب عليها إعداد القوة الكافية لردع أي عدوان عسكري خارجي، والجهاد العسكري الخارجي إنما هو لحفظ الدولة من العدوان..

والشورى الملزمة, هي مقتضى البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عـليه وسلم، والحاكم الذي لا يلتزم بها، يجب خلعه كما نص ابن عطية الأندلسي، لأن الإسلام والطغيان لا يجتمعان كما قال محمد الغزالي. 

القاعدة السادسة:التزام الحاكم بضمان حقوق الأمة السياسية ولاسيما حقها في المراقبة والمحاسبة والمعارضة السلمية ومقاومة الانحراف السياسي:

وأهم من ذلك كله حق الأمة السياسي في  مراقبة سلوك الحكومة، وإصلاحها ومقاومة طغيانها من خلال تجمعاتها الأهلية المدنية. حق الشعب في مقاومة الظلم والانحراف والطغيان، وجوب الجهاد الداخلي السلمي، على الكافة وجوبا عينيا على جميع أفراد الأمة، لحفظ الدولة والمجتمع من الطغيان ويجب على الدولة قبول الدولة الاحتساب السلمي عليها.

القاعدة السابعة:يحرم على الحاكم استخدام العنف وسيلة للبقاء في السلطة :

القاعدة الثامنة:وظيفة الحاكم تنفيذية(الدولة الخادمة):

ومقتضى كون الحاكم وكيلا أن تكون وظيفة السلطة (التنفيذية) إنما هي تنفيذية لما تقرره الأمة عبر ممثليها أهل الحل والعقد, ولذلك تسمى في الدول الشورية (الدستورية) “السلطة التنفيذية”، لأن وظيفتها محصورة بتطبيق ما يراه جمهور الناس عبر ممثليهم, في سعيهم لتحقيق مصالحهم, في إطار الشريعة, بصورة تثبت الأمن وتضمن والإنصاف والشورى, وشرعية الدولة قائمة على الوفاء بهذا التعاقد,

حيث إن الدولة وكالة تنفيذية, ينبغي أن تكون تدخلاتها في شئون الناس محدودة ,مقيدة بأكثر ما يمكن من قيود, كي لا تجنح إلى الاستبداد والاستعباد والطغيان, وينبغي أن تكون حرية الأفراد والجماعات في إطار الشريعة, مقيدة بأقل ما يمكن من تسلط الدولة, وينبغي أن تكون السلطة التنفيذية مقيدة برأي موكليها, في تنفيذ إرادتهم.

للدولة لها بمقتضى كونها تعاقدا سياسيا وظائف محددة تنفيذا لإرادة مواطنيها، ومقتضى كونها تنفيذية، أن تكون تدخلاتها ، محصورة ومحدودة. حيث إن الدولة وكالة, وليس هناك موكلون يعطون وكيلهم وكالة تسمح له بالتضييق عليهم .

فدورها خدماتي في توفير الخدمات من غذاء وكساء وعلاج وسكنى ومواصلات.

ودورها إداري محض في حماية الأساسية الحقوق الإنسانية لمواطنيها:

القاعدة التاسعة:القاضي وكيل عن الأمة لا عن السلطان:

  أن القاضي  وكيل عن الأمة أيضاً، وإنما تعيين الحاكم القضاة إجراء إداري، بموجب وكالته عن الأمة، ومقتضى ذلك أن الأمة تصون قضاتها عن الانحراف، بعشرات من الإجراءات منها أن تضمن أن لا ينفرد السلطان بتعيينهم وعزلهم، وتراقب أداء قضاتها وتحاسب من أخل بالإنصاف

القاعدة العاشرة: لا يجوز طاعة الحاكم المغتصب إلا إذا جرى على شرط الحاكم المنتخب، بالصدور عن رأي عرفاء الأمة الذين تنتخبهم، ومن حقوق الناس السياسية في الإسلام أن يأمروا الحاكم بالمعروف السياسي والاجتماعي وأن ينهوه عن المنكر السياسي والاجتماعي دون حاجة إلى إذنه أو رضاه ، والأمر بالمعروف السياسي ، واستخدام كل الوسائل السلمية الناجعة، مسألة لا خلاف فيها، بل هي من الجهاد إنما الخلاف في استخدام الأمة العنف، كما سنفصل لاحقا.

وهي مسائل قطعية، لا يشكك فيها إلا صنفان من الفقهاء: الأول: صالح بنفسه ولكنه جاهل أو غافل أو مخدوع. الثاني: كذاب منافق أو مخادع أو مداهن… 

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة “من ظلمه أميره فلا إمرة له عليه دوني، فكان الرجل يأتي إلى المغيرة بن شعبة أمير الكوفة ويقول: إما أن تنصفني من نفسك، وإن لا فلا إمرة لك علي” (حديث موقوف صحيح انظر السنة للخلال).

أن العدل مقصود على الخصوص في بيعة الحاكم. من أجل ذلك قال ابن تيمية “الكتاب والعدل متلازمان فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع” (الفتاوى25/366). أي ومن ظلم فقد حكم بغير ما أنزل الله. فإذا نبه وجوه الناس من الفقهاء وأهل الرأي والتدبير والاختصاص  المستبد وأصر على ظلمه، فقد نقض شرط البيعة. 

 وظيفة السلطة (التنفيذية) إنما هي تنفيذية لما تقرره الأمة عبر ممثليها أهل الحل والعقد, ولذلك تسمى في الدول الشورية (الدستورية) “السلطة التنفيذية”، لأن وظيفتها محصورة بتطبيق ما يراه جمهور الناس عبر ممثليهم, في سعيهم لتحقيق مصالحهم, في إطار الشريعة, بصورة تثبت الأمن وتضمن والإنصاف والشورى.

 وشرعية الدولة قائمة على الوفاء بهذا التعاقد, فشرعية السلطة مرتبطة بكونها وكالة عن الأمة، لا وكالة عليها، ومقتضى الوكالة مشاورة الوكيل موكليه، وقبوله مراقبتهم ومحاسبتهم، كما حكى عنهم النووي في (شرح صحيح مسلم:4/76) ويكون ذلك بإقامة ميزان العدالة, والالتزام بتنفيذ الشورى, وقد أكد ذلك جمهور الفقهاء، وصرح بمقتضاه ابن عطية الأندلسي عندما قال: إن الحاكم الذي لا يشاور، يجب عزله, وهذا ما أشار إليه أسلافنا, عندما قالوا عن عمر بن عبدالعزيز: إنه صار خليفة شرعياً عندما شاور وعدل، ومقتضى ذلك أن لا يطاع السلطان، إلا إذا أطاع هو أهل الحل والعقد.

وإهمال الناس  حقوقهم  السياسة يؤدي إلى فقدان الأمة جهاز المناعة، وإلى العودة إلى قيم وآليات المجتمع البدوي والوحشي، فتشيع أمراض اختلال الأمن والجوع وسوء التغذية والمرض، وإلى انحلال عرى قوة الأمة أفرادا وجماعات ومجتمعات ودولا، وشيوع التمرد والتطرف والعنف انفلات حبل الأمن تلقائيا، وذلك يفضي إلى الإخلال بشعائر الإسلام الروحية، كما جاء في الحديث الصحيح” أول ما تفقدون من دينكم الحكم وآخر ما تفقدون منه الصلاة.

5=الاستبداد هو جرثومة الداء في الدولة العربية الحديثة

 التي لم تركز عليها التيارات  إسلامية ووطنية وقومية واشتراكية:

. كان خطأ عديد من دعاة الإصلاح الإسلاميين أن تصورهم للدولة، كان تقليداً للفكر السياسي العباسي, أو أن الوصول إليها لا يكون إلا عبر الانقلاب. وكان خطأ دعاة الإصلاح من غير الإسلاميين، أنهم يريدون أن يلزموا الناس بما تعتبرونه تقدما وحداثة أو وحدة وتنمية، فالوطنيون أرادوا أن يجمعوا شمل الوطن الواحد, وسبيلهم القمع والقهر وتهميش حقوق الأقليات. القوميون أرادوا وحدة عربية, جسورها الدماء والحروب, كما في النموذج الناصري, وكنموذج الدولة (البعثي) العراقي الذي حاول تفتيت الأكراد, وبعض دعاة التحديث, من أهل العلمنة أرادوا أن يسوقوا المرآة جبراً وقهراً, لما اعتبروه حداثة وتمدنا, كما فعل الكماليون الأتراك الذين فرضوا مفاهيمهم عن التخلف والتقدم على الناس.

والاشتراكيون الذين أرادوا عدالة وفق نموذجهم الشيوعي، تكون فيها أحزابهم وصية على الأمة, كما فعل الشيوعيون في كل مكان, ولاسيما في جنوب اليمن والصومال.

وهمش الجميع مفهوم الحكم الشوري، الذي هو أساس كل شي في الدولة والأمة, الذي لا يمكن العدل من دونه, فنسوا (الدستور)، نسى دعاة التحديث من غير الإسلاميين أنه لابد من أن يكون الدستور إسلامياً, فأثاروا مخاوف الإسلاميين، والناس العاديين الغيورين على الأخلاق والهوية. لم يكن معارضو الدستور ولا الغافلون عن أولية المناداة به؛ يمارسون تضليلاً عقيدياً, ولكنهم ارتكبوا غلطاً مفهوميا, إذ لم يدركوا كيف يكون الإصلاح, وانشغلوا بمظاهر التقدم كالصناعة والتعليم والزراعة والتقنية، من دون أن يتذكروا أن أي  تقدم، لا يكون من دون النظام الدستوري للحكم، وانشغلوا بالوسائل الفوقية, وغفلوا عن أن روضة الحكم الدستوري، إنما سبيلها المستقيم المجتمع الأهلي المدني.

أغفل الجميع أن الدستور لا يحتوي على رفض سلطان الشريعة, ولا التهوين من قدر العدالة الاجتماعية ولا رفض الوحدة العربية, ولا التهوين من الحداثة والتنمية والتقنية، نسوا أن معناه الحفاظ على حقوق المواطنين, ومعناه أن يشارك الناس في القرار, الذي تتخذه السلطة من أجل مصالحهم, من أجل ضمان العدالة والشورى, ومعناه أن تلتزم السلطة التنفيذية بالقواعد العادلة, ومعناه أن يكون هناك رقابة من الأمة عامة, على سلطات الدولة الثلاث كلها، عبر المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي.

ونسوا أنه لا يمكن حفظ الدولة من الانهيار والانحلال والزوال، ولا حفظ المجتمع من اغتيال الدولة، إلا عبر التجمعات المدنية الأهلية, فهذه التجمعات هي سور الدولة, التي تحمي مجلس النواب و تحرس استقلال القضاء, وتكبح تدخلات السلطة التنفيذية, وتتعاون كل هذه الهيئات لتراقب تطبيق ما يصدره مجلس النواب من قوانين، و سلامة ما تصدره السلطة التنفيذية  من  أنظمة وقرارات وأوامر وتعليمات إدارية. ومعناه تجسيد (قوامة) الشعب على الدولة، تجسيد الشورى وتحقيق العدل والحرية والمساواة والتعددية والروح السلمية.

فلماذا أدركت الأمم فضل  النظام الدستوري وتأخر العرب:

لماذا اكتشفت كل أمم الأرض -ماعدا العرب- أن الحكم الشورى، هو الحصن الحصين, الذي يصد رياح البداوة, وطغيان سيول الدكتاتورية؟ لماذا وجدنا الناس يمشون في جادة الحكم الدستوري، في العالم كله غربه وشرقه، حتى الأفارقة هاهم يترقون ويعلنون الدستور, إلا نحن العرب نعود القهقرى؟, لأن الاختلال كامن، في الجذور، في الفكر المختل الذي نما عبر العصور، في ظلال الحكم الجبري الجائر, الذي امتص الروح الصحراوية و الكسروية, وأدخل (القمع) في مفهوم السياسة الشرعية، فصار التخلف السياسي محمياً بخطاب ديني, واختلط بثقافتنا العربية الإسلامية, فاعتبر الركون إلى دولة الجبر والجور, علامة على تطبيق الشريعة, وعلى الأصالة والخصوصية العربية معاً.

من أجل ذلك اختلفت الدول العربية في كثير من الأمور, وكادت أن تجمع على وأد المفهوم الشورى للحكم، لأنها ترث مفاهيم الحكم الصحراوي الجبري الجائر, في قاع الدماغ، سواء أعلنت القومية أو الوطنية, أو الاشتراكية, أو العلمانية, أو الإسلام.

يختلف وزراء الخارجية والتعليم العرب دائماً، ولكن وزراء الداخلية العرب -في الغالب- متفقون، لأنهم يكادون يجمعون على مفهوم (الدولة البوليسية), لأن الدولة العربية إن انتسبت إلى الحداثة, ركزت على مظاهر التمدن و مباذله وسفاسفه, وأقصت الدستور الذي هو لب الحداثة السياسية، التي هي أم الحداثات. وإن انتسبت إلى الإسلام, طبقت جزئيات الشريعة ومظاهرها, وهمشت مفهوم الحكم الشورى وهو (الإطار الضامن) الكلي الجوهري لتطبيق الشريعة  وهو أساس الإسلام بعد التوحيد.

وكأن الصحراء التي احتضنت التوحيد الجديد عجزت عن احتضان الحكم الرشيد:

ألا ينبغي أن نتذكر ؛ أن الفرق بين الدولة الراشدية والدولة الأموية ومن بعدها، هو الشورى التي هي أم القواعد الدستورية في الإسلام، وأنها ركن عظيم من الدين، وأن فقدانها يؤدي إلى ضياع أصل الدين، هذا المعنى هو ما يشير إليه الحديث الشريف “أول ما تفقدون من دينكم الحكم، وآخر ما تفقدون منه الصلاة”.

 والحكم الذي إليه يشير الرسول، هو الحكم الشورى، لأن الأمة لم تفقد أصل الحكم، بل فقدت طبيعته الشورية، من عهد معاوية، ونص الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه الحكم الشوري من الدين، ولم يقل من عادتكم وأخلاقكم العربية، وربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين ضياع (شق الشريعة المدني) الذي عموده الحكم الشوري، وشق الشريعة الروحي الذي عموده الصلاة، وهذا قرينة على ارتباط قوة الإسلام بالمفهوم الشورى للحكم، من أجل ذلك قال المجاهد بكلمة الحق أمام السلطان الجائر: محمد الغزالي “إن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أمام مراسيم الاستبداد؛ فترتد بهم إلى وثنية عمياء” (محمد الغزالي:الإسلام والاستبداد:6).

    لماذا ركزت الدعوات القومية على الوحدة وهمشت المفهوم الشورى للحكم؟ وركزت الدعوات الاشتراكية على العدالة ونسيت الحكم الشورى  هو حارس العدالة؟ وركزت الدعوات العلمانية على تحرير المرأة ولو جبراً من دون أسلمة مفهوم التحرير، ونسيت الحكم الشورى؟ وركزت الدعوات الإسلامية على تطبيق الشريعة، ونسيت أن الحكم الشورى أصل من أصول الدين الكبرى؟.

إن السبب الكامن في كراهية الحكم الشورى, ليس تضاداً بينه وبين تطبيق الشريعة, ولا الأصالة العربية ولا الخصوصية ولا الوحدة العربية. إنه ثقافة الاستبداد, التي أنجبها الزواج الصحراوي الكسروي, بحيث صار الاستبداد علامة الشخصية العربية السوية, دولة أو هيئة, ورجلا أو مرأة, أبا أو أما أو مربيا، أميراً أو رئيساً أو مديراً، فقهياً أو أستاذاً جامعياً, أو خبيراً أو مثقفاً, أو إمام مسجد أو مختار قرية والذي لا يستبد شخص غير سوي. على ذمة عمر بن أبي ربيعة:

ليت هنداً أنجزتنا ما تعـد              وشفت أنفسنا من ما نجد

واستبـدت مــرة واحـــــدة           إنما العاجز من لا يستــبد

حتى الصلحاء والزهاد والفقهاء، لا يستطيعون أن يكونوا إلا مستبدين يحبون الترؤس، كما شهد أيوب السختياني “حب الرئاسة آخر ما ينزع من رءوس الصديقين” فيالك من أمة لا ينجو  فيها من عاهة الاستبداد حتى الأطهار.

    وباء الاستبداد هو آفة العرب, وكل الأمراض الأخرى إنما هي مظاهر أو مضاعفات، واستمر هذا الوباء بسبب ماران على الإبصار، من عاهات في جهاز التفكير, الذي برعم في ظلال الحكم الجبري الجائر إنها الثقافة القمعية (صحراوية كسروية): إنها الأعراف السياسية المتخلفة, التي شاعت في الثقافة العربية المكتوبة والمنطوقة, وخاصة القديمة, في الثقافة المجتمعية عامة, في قصصنا وأمثالنا وأشعارنا, وفي ثقافة نخبنا من أدباء وفقهاء ومؤرخين، حتى أصبحت من المسلمات:

يقضى على المرء في ساعات محنته    ×   حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

– الظاهرة العربية الفريدة في العالم اليوم:

رأس الدولة العربية يتقمص روح (ولي الأمر) في التراث؟:

إن ظاهرة استبداد الدولة العربية ظاهرة فريدة في عهد الهيمنة الأفرنجية. ومن الصعب أن تتخلص الدولة العربية من استبدادها, لأن هذا الاستبداد كامن في الجذور الوراثية, التي تغلغلت في دماء المجتمع والدولة منذ الانحراف عن الحكم الشورى العادل, إلى الحكم الجبري الجائر, وأصل هذه البدعة الكبرى في الإسلام,  هو الجذور الصحراوية والكسروية, التي عبثت بفكرنا السياسي والقضائي والإداري, حين صار المجتمع منقادا, لنزعة الاستبداد السلطاني، وتتكون الرحى التي هرست الحقوق، ولاسيما الحرية السامية، من (الاستبداد) الذي وصف طبيعته الوحشية المصلح عبدالرحمن الكواكبي بقوله السائر: “الاستبداد” جرثومة كل فساد، ومن (القابلية للاستعمار) والاستعباد، التي حددها المفكر مالك بن نبي، واختصرت طرفي شقيها الآية الكريمة “فأستخفف قومه فأطاعوه، إنهم” -في محكم القرآن- “قوم فاسقون”.

دولة الجبر والظلم ظلت تعتبر أن استبدادها وانقياد الناس لها كالقطيع, هو الوضع الطبيعي بين الدولة والمجتمع, ضمن قوانين مكتوبة وغير مكتوبة، في السياسة والقضاء والإدارة والتربية، وتجسد وإجراءات وأطراً في نظام القضاء, وثبت الاختلال  الدستوري معرفياً, بإدخاله في مسلمات الشريعة، لكي لا يزور عنها إلا منحرف, ذو نزعة خارجية أو اعتزالية، أو علمانية، ونسي الناس أن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان.

فالمشكل مركب شائك, إذ إن الإخلال بالمفهوم الشورى للحكم الذي يعبر عنه (النظام الدستور) بالتعبير القانوني اليوم, دشن الفقهاء العباسيون الغافلون والمداهنون هذا الإخلال, على أنه مقتضى تطبيق الشريعة، واقتنصوا زلات علماء السلف العباسي، وحولوها إلى قواعد شرعية! فدعموا جدران قلعة التخلف السياسي والمدني بإسناد ديني, ولووا أعناق النصوص, واستقر اللي في التفاسير والشروح, فهتكوا القانون الدستوري, الذي أدرك البشر مبادئه وسائله, في كل مجتمع ذي رقي مدني منذ عهود اليونان والرومان, ونسوا أن الشوري هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى العدل, الذي أنزل الله الكتب و أرسل الله الرسل, لإقامة ميزانه.

6=لا يمكن العدل إلا بتطبيق (النظام الشوري) /الحقائق السياسية التسع:

يا ترى؟ أما آن لنا أن نصحو من الأعراف القمعية, التي تقدم تحت عناوين براقة, من تأصيل تراثي أو تجديد حداثي؟ كي لا نهون من قدر الحكم الشورى ثم نسند جهلنا وتخلفنا بسناد ديني أو قومي أو علماني؟ لكي ندرك الحقائق السياسية الإنسانية، في كل وطن وعرق ولغة ودين:

الأولى- لا حياة لأي مجتمع دون العادل،العدل والمساواة أساس الحكم و كل نظام غير عادل لا يقيم دولة قوية ولا يصونها.

الثانية: كل نظام لا تسود فيه الشورى نظاما تعليميا وتربويا وسياسيا، فلن يقيم عدلا ولا مساواة، ولا كرامة والمساواة والتعددية، هي كل نظام لا شورى فيه فإنماهو نظام إكراه قمعي.

الثالثة: لا يمكن ظهور (النظام الشورى) إلا في حوض الحرية السياسية، التي تشيع التعددية والتسامح والحوار.

الرابعة: كل دولة لا تقدم الناس لا يكون سبيل وصول أهل العقل والرأي؛ ليكونوا أهل الحل والعقد، هو الانتخاب الحر؛ فهي غير شورية.

الخامسة: لا ضمان لنزاهة القضاء إلا باستقلاله عن سيطرة الحاكم، أي لا يمكن ضمان نزاهة أي قضاء  دون النظام الشوري:

إن أي دولة إسلامية حديثة تحاول أن تجسد نموذجاً صحيحا لتطبيق الشريعة الإسلامية، والعدالة القضائية بناء على هذا التراث, لن توفر العدالة القضائية, بل ستخل بالعدالة الاجتماعية, وبحقوق الإنسان الشرعية, عندما تعيد إنتاج النموذج القضائي العباسي, لما في مسلماته العباسية من خلل كبير في منظومة حقوق الإنسان، و فضلاً عن أنه ليس قضاء مستقلاً، فضلاً عن أنه لم يتعرض لهجوم العولمة و ومعطيات الحداثة, ومنافسة العلمنة وتحديات الهيمنة الأجنبية.

 لا يمكن لدولة أن تستفيد من إنجازات العصر, ولا أن تواكب المستجدات, بل ولا أن تحل المشكلات, بل ولا تنجو من تحديات القوانين الأجنبية, التي ضربت مثالاً من العدالة خلب الأبصار, إلا بأن ترتفع طموحا وابتكاراً إلى مستوى إسلامها, وتجدد نظامها القضائي, قبل أن تلتهمها العلمانية والعولمة والفرنجة والهيمنة الأجنبية.

ولا بد من أن يكون للقضاة ثقافة حقوقية، تبنى على الكتاب والسنة وتطبيقات الخلافة الراشدة يتجسد فيها عدل الشريعة, تنفض ما استقر في الأذهان من الفكر القضائي العباسي, ولاسيما حقوق الإنسان عامة, وحقوق المتهم خاصة, وأهما حظر التعذيب, ورفض أي اعتراف, ناتج عن سلب الإرادة سلب الرضا أو الاختيار معاً, وتقرير حق حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتجمع السامية وحقه الإنسان في النصيحة والتجمع والمعارضة السلمية, لكي لا يعتبر القضاء حقوق الناس من الفتن, ويستخدم بند التعزير المطاطي سيفاً مسلطاً فوق كل رأس. ولا بد من تقوية برامج إعداد القضاة وتأهيلهم, وتعميق جانب الثقافة القضائية, لتعمل على مزيد من وعي القضاة بحقوقهم, لأن حصول القضاة على حقوقهم، يساعدهم على تجسيد مبدأ استقلال القضاء، من دون ذلك يصبح فيها القضاء سلاحاً من أسلحة تثبيت الاستبداد وتشريع الجور والتخلف والفساد.

السادسة:  كل دولة لا تقسم السلطات, فلن تمنع الاستبداد ولا الطغيان.

السابعة: كل مجتمع ليس فيه تجمعات مدنية أهلية, قادرة على إجبار الحكومة؛ على الإذعان لإرادة موكليها؛ فلن تكون ضمانات الحقوق فيه مرعية، ولن يحرس استقلال القضاء، ولن يسند استقلال مجلس النواب.

الثامنة كل مجتمع لا يستقر فيه الأسلوب السلمي، طريقا لحل الخلاف الاجتماعي والسياسي، فهو منتج ثري للعنف والتطرف والفوضى العارمة لن يتمتع أفراده بالمساواة والكرامة والحرية والتعددية ، ولن تستقر فيه العدالة.

التاسعة: لا يمكن سلامة المجتمعات من العنف والتطرف إلا في ظلال حكم شوري، ولا ينشأ الحكم الشوري؛ إلا في رواق مجتمع مدني.

 

7=-كيف استخدم المستبدون الدين لتطويع الأمة/تحت عبارة تطبيق الشريعة من انتهاك لحقوق الناس/ لا تصح دعوى تطبق الشريعة في نظام  غير شوري:

و(النظام الشوري), هو الوسيلة الوحيدة في الدولة الإسلامية الحديثة, لضمان القسط الذي صرح الذكر الحكيم، بأنه وظيفة الأنبياء والمرسلين، “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان “لماذا”؟ ليقوم الناس بالقسط” (سورة الحديد).

 إنه لا يمكن تصديق دعوى أي حاكم أو حكومة، بتطبيق الشريعة، ما لم تكن السلطة منبثقة من الإرادة الأمة، كما دل على ذلك نمط خطاب الله الأمة في الآيات الكثيرة: يا أيها الذين آمنوا، التي تخاطب الأمة في الشئون السياسة والاجتماع والتربية والاقتصاد، ولا تخاطب الحاكم ولا الفقيه، ومنها الآية الكريمة، “ولتكن منكم أمة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، هذه الآية كما يقول محمد يوسف موسى كعديد من فقهاء السياسة الشرعية الحداثي، أحد نصوص (النظام الشوري) في تأسيس سلطة الأمة وسيادتها ودورها في “حراسة المجتمع من البغي والظلم والعدوان وإقرار العدل” (انظر نظام الحكم في الإسلام:14 والفقه السياسي في الإسلام فريد عبدالخالق:65).

كيف نصدق فرية تطبيق الشريعة في نظام يضخم حقوق السلطان ويقزم الأمة وينعتها بالرعاع:

        عندما نتحدث عن تطبيق الشريعة, عندما نقول الإسلام هو الحل، ما هو الإسلام الذي نريد أن نطبق؟ هل هو نظرية الحقوق الأصلية الواردة في نصوص الكتاب والسنة وحقل تطبيقهما الراشدي أم نحن أمام نظرية الحقوق الملفقة, من الأفكار الصحراوية و الكسروية والأطر الأموية والعباسية والعثمانية؟, وإذن فإن بعض القوانين الإفرنجية أقرب إلى تحقيق العدالة الإسلامية، من هذه الأفكار المتخلفة في قناع ديني, كما ذكر الشيخ محمد رشيد رضا وغيره, قد يبدو هذا الكلام غريباً، ولكن شر البلية ما يضحك.

وماذا بمصر من المضحكات              ولكنه ضحك كالبكا

قد يستغرب بعض الناس أن يقال إن تطبيق القضاء وفق النموذج العباسي, مخل بحقوق الإنسان. ذلك إن الإخلال ليس حادثاً جديداً ولا مشكلا بسيطاً, بل هو إشكال مركب قديم, إشكال في جذور الفكر الحقوقي, حيث إن النزعة الصحراوية والكسروية, داخلت النظام السياسي شيئا فشيئا منذ العصر الأموي فتجلت صورها في التصرفات الاجتماعية, ثم ظهر صداها في الفكر الاجتماعي عامة, والفكر السياسي والحقوقي خاصة، فتدحرج الفكر القضائي إلى الحضيض, والفقهاء والقضاة العباسيون والمستعبسون غافلون لا يشعرون, فوضعوا قواعد قضائية غير عادلة, مؤسسة على أعراف حقوقية غير عادلة.

كيف نصدق عبارة تطبيق الشريعة في نظام  على يختزال الأمة بالإمام, ويستحوذ على أزمة السلطات الثلاث الخلل في الأساس أي في طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع, وصار الحاكم وكيلاً على الأمة كالوصي, بدلاً من الوضع الطبيعي أن يكون وكيلاً لها, في ظل هذا التصور, لا يمكن قيام نظرية عادلة للحقوق.

كيف نصدق عبارة تطبيق الشريعة في نظام  يقمع الحرية وتطبيق القانون على الضعفاء فحسب:

       أصبحت العدالة في الصياغة -في ظلال الحكم الجبري-نظرية الحقوق والحريات السامية عوارء, وصار تطبيق الشريعة تبعيضيا يسمح بالمتناقضات, وأصبح سطحيا جزئيا يعالج النتائج ويترك البواعث, فيقام الحد على مرتكبي الفواحش, ويتغاضى عن فاتحي أبوابها، ويقام الحد على من يسرق الطعام, ويتغاضى عن الحاكم الذي يضع خطة منظمة (لتفقير) الشعب, ويعاقب من يسرق بعض النقود من الخزينة في ستر الظلام, ويتغاضى عن من يسرقون مال الأمة العام في وضح النهار, ويقام الحد على من يشرب الخمر والمخدرات، ويتغاضى عن بواعث الهروب إلى المسكرات, كالتوتر والقلق والكبت الاجتماعي, ويقام الحد على الضعاف والمهمشين ويترك الأعيان والملأ والكبراء. ويقام حد الحرابة على من يقتل الفرد, ويترك من يقتلون الألوف قتلاً معنوياً هادئاً, أو في حروب الأهواء, ويقام الحد على قاتلي الأجساد, ويترك قتله الروح والحرية والكرامة، الذين يحولون الأحرار إلى عبيد، من الذين طغوا في البلاد  فأكثروا فيها الفساد.

         لماذا كل هذه المفارقات؟ لأن الاستبداد -تطبيق للشريعة-(نظرية المستبد العادل) نتيجة هذا الفقه المفرط قول الشاعر:

قتل امرئ في غابة         جريمة لا تغتفــــــر

وقتل شعب كـــامل           مسألة فيها نظــــر!

     وبذلك انحسر مفهوم تطبيق الشريعة, وانقصر على الجنايات الفردية وعقوباتها، أما ولي الأمر وحاشيته، فمن يستطيع أن يقاضيه، وهو القاضي الأصيل، ومن يستطيع أن يحاسبه على سوء تصرفاته بالمال العام وأراضي الأمة، وهو أدرى بالمصلحة.

وهذا مخالف لما أنزله الله على أنبيائه من وحي الشرائع, التي جاءت مؤكدة مكارم الأخلاق, التي أوحى بها  الله إلى الطبائع, من أسس سلامة المجتمعات, ومن تصور أن حقائق الشريعة , تخالف ما فطر الله عليه البشر من طبيعة، فقد جهل إحدى الحقيقتين عندما تصور أن بينهما قطيعة.

كيف نصدق عبارة تطبيق الشريعة في نظام   وقد صارت أراضي  وأموالها الامة ملكا لولي الأمر:

مركزية الحاكم أشاعت في بعض التنظيرات وفي غالب التطبيقات، مساوئ تهد التجارة والاقتصاد من ذلك ما رآه بعض الفقهاء الغافلين من أنه لا يجوز إحياء الأرض الموات, إلا بإذن السلطان, وقد استغل أئمة الجور مثل هذه الآراء، في السيطرة على ثروات الأمة, فوزعوا أراضي الأمة على المحاسيب والأقارب والفاسدين والمداهنين, فانهدم الاقتصاد, ولم يسهم الفقهاء الغافلون بجهد يذكر في محاربة الرشوة والمحسوبية, والفساد وهدر المال العام, بل بنوا منظومة من فقه الضرورة والإحباط والإسقاط تجيز للناس دفع الرشوة ونحوها, محتجين بفساد الإمام، وهم الذين شاركوا في ونحت تمثاله والطواف حوله.

حينما تجعل امتلاك الأرض للسكنى أو الزراعة, بيد حاكم جائر, ذي سلطة مطلقة, فتمنع الشعب إحياء الأرض الموت إلا بإذنه, ثم هو يوزع أراضي الشعب فيقول أولاً على أسس غير موضوعية، ويحكم في تطبيقها الهوى بإصدار قانون يسميها (الأراضي الحكومية), وحيث إنه هو الحكومة ينقل ملكية الأراضي، من الشعب إليه, يقوم بالخطوة, الثانية وهي التصرف فيها كما شاء، وكأن البلاد والعباد ميراث أبيه وجده.

كيف نصدق عبارة تطبيق الشريعة في نظام سياسي أشاع خطباؤه-في الجوامع والمجامع   أن  الإذعان لهوان الدنيا  هو مهر الجنة في الآخرة!:

   من أجل ذلك صار المجتمع منقاداً, بصورة طوعية تلقائية لنزعة الاستبداد السلطاني, واستغل السلاطين وفقهاء الغفلة والسوء الدين, لشطب ثقافة الكرامة, ولترسيخ ثقافة الهوان, عبر تمجيد الحاكم, والإطناب في حقوقه, والإيجاز في واجباته, والحث على الصبر على جوره, وحث المستضعفين على تأجيل نيل الحقوق والكرامة إلى يوم القيامة.

 وذلك أفظع أنواع القمع, أن يتلذذ الإنسان بالإهانة وفقدان الحرية, ويخلد إلى الاستكانة, ويقوم بواجباته, متنازلا عن حقوقه. معتبراً الاستسلام للطغيان في الدنيا إنما هو المهر الواجب دفعه، لخطبة الفردوس في الآخرة على حد قول الشاعر، الذي استشهد به النووي، في مقدمة كتابه رياض الصالحين، وكأنه يغرز لافتة، تشير إلى طريق الصالحين:

إن الله عباداً فطنا    طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

   نظروا فيها فلما علموا      أنها ليست لحي وطنا

  جعلوها لجة واتخذوا      صالح الأعمال فيها سفنا

وعلى حد ما ذكره ابن أبي العز شارح الطحاوية في أن الصبر على جور الحكام تكفير للسيئات ورفعة للدرجات!!.

كيف نصدق عبارة تطبيق الشريعة في نظام  طوع نظامه التربوي  الناس  كي تنقاد الضحيايا لجلادها.

رسخ ذلك في الأمة ثقافة الهوان، فظلت الدولة العربية تعتبر استبدادها وانقياد الناس لها كالقطيع، حقاً لها طبيعياً بديهياً، وظل الفقهاء المفرطون يقررون ذلك، على أنه من طاعة الله وتطبيق الشريعة، فصار الناس يدافعون عن أغلالهم باعتبارها من طاعة الله، ويرجمون كل من يحاول فك أغلالهم، بحجارة من أقوال السلف العباسي الصالح!. وصارت الجماهير مصابة بعقدة (مازوك) كالقطط التي تحب خناقها، كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، عندما أراد أن يجبر بني أمية على رد مظالمهم إلى بيت المال فلم يجد عونا من الرأي العام، “أما والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب له هذا الحق، لأضرعت خدودكم”.

 

 8=العنف والتطرف أو  المجتمع المدني الإسلامي من خلال سمات ست

المبدأ الأول:الحرية الفطرية

ومقتضى ذلك أيضا أنه لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس برأيه، في أي مسألة فيها خلاف معتبر. ومقتضاه أيضا أنه لا يجوز منع الناس ولاسيما المفكرين والمثقفين من إبداء آرائهم ونشرها، ما دامت في إطار النصوص الشرعية القطعية، كما جسد هذه القاعدة الخليفة عمر بن عبد العزيز في تصرفاته، عندما ولى بعض الفقهاء المبتدعين مفاتيح بيت المال، من الذين عذبهم بنو أمية وقتلوهم باسم الدفاع عن السنة!!.

وحرية التفكير والتعبير والتجمع المسئولة في إطار الشريعة, من أركان العقيدة الإسلامية، ومقتضاها مشروعية قيام الناس بمبادرات جماعية حرة, للتعبير عن قضايا أو مصالح أو مشاعر مشتركة.

المبدأ الثاني: التسامح

 ومن لوازم مبدأ الحرية السامية، التسامح والتآلف  والروح الإنسانية ، والروح الشورية وقبول الاختلاف والإنصاف والائتلاف عن الخلاف.

وكما طبق هذه القاعدة أيضا الإمام احمد، عندما انتصر على خصومه في عهد المتوكل، وكف المتوكل عن التنكيل بالمعتزلة، فكانوا يقولون: قدرنا على أحمد فآذيناه، وقدر علينا فكف عنا (انظر السنة للخلال).

وكما طبق هذه القاعدة أيضا الإمام ابن تيمية، عندما انتصر على خصومه في عهد الناصر ابن قلاوون، وكف الناصر عن التنكيل بالقضاة والفقهاء الذين تواطأوا على سجنه وقال للناصر: “إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم” فقال له السلطان: “إنهم آذوك وأرادوا قتلك مراراً” فقال: “من آذاني فهو في حل”. حتى قال ابن مخلوف احد هؤلاء فقهاء القمع “ما رأينا كابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا” (تاريخ ابن كثير: أحداث سنة 709هـ).

ومبدأ التسامح والتآلف. أن تسود بين الناس قيم التعاش الاجتماعي, كالتسامح والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن, والتكافل والتعاون, وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمى, وهذا مايعبر عنه بـ(السلمية), وحاصل ذلك أن يلتزم الناس جميعاً, افراداً وجماعات بالروح السلمية أي بحل أي خلاف بالتشاور والتحاور، فيصبح الصراع الرمزي ,هو القاعدة المهيمنة, عند الاختلاف , ويحل محل الصراع المادي.

 

المبدأ الثالث: التعددية:

 التي تقوم على أن تكون قرارات الأمة مبنية على رأي الأكثرية، مع ضمان حقوق الأقلية، وهو مبدأ يضم شمل قيم عدبدة،كالحوارية والتعايش كقبول بالتعددية المبنية على عدم تحكم الأقلية بالأكثرية، والاحتكام في القرارات إلى معيار الأغلبية، مع التوافق الاجتماعي وحفظ حقوق الأقلية.

والكتاب والسنة قررا حرية الأفراد والجماعات, وأقرا التعددية الثقافية والاجتماعية والمذهبية, ورفضا تكفير أهل القبلة أو قمعهم, وأدانا النيل من حقوق الأقليات, ونموذج تطبيق ذلك جسده الخلفاء الراشدون, كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ولاسيما في اعترافه بحقوق الخوارج, وهم أكثر أهل القبلة غلواً, كما ذكر أحمد بن حنبل رحمنا الله وإياه. وكما جسد ذلك عمر بن عبد العزيز  وعبد الله بن الزبير في تعاملهما أيضا مع الخوارج، ومقتضى ذلك الأخذ برأي الجمهور أو الأكثرية, مع حفظ حقوق الأقليات وهذا ما يعبر عنه بـ(التعددية).

 والتعددية شرط لتآلف المجتمع، لأن أفراد الأقليات التي تعيش في ظل الحضارة الإسلامية مواطنون أنداد، لهم مثل ما لغيرهم، وعليهم مثل ما على غيرهم، وهذا معنى ذمة اللَّه ورسوله والمسلمين، وعهده لهم.

 التعددية فكرية واجتماعية وثقافية، هي مقتضى المساواة بين الناس. 

ومشروعية قيام الناس بمبادرات جماعية حرة, للتعبير عن قضايا أو مصالح أو مشاعر مشتركة, والكتاب والسنة قررا حرية الأفراد والجماعات, وأقرا التعددية الثقافية والاجتماعية والمذهبية, ورفضا تكفير أهل القبلة أو قمعهم, وأدانا النيل من حقوق الأقليات, ونموذج تطبيق ذلك جسده الخلفاء الراشدون, كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ولاسيما في اعترافه بحقوق الخوارج, وهم أكثر أهل القبلة غلواً, كما ذكر أحمد بن حنبل رحمنا الله وإياه. وكما جسد ذلك عمر بن عبد العزيز في تعامله أيضا مع الخوارج، ومقتضى ذلك الأخذ برأي الجمهور أو الأكثرية, مع حفظ حقوق الأقليات وهذا ما يعبر عنه بـ(التعددية).

 فمن وأد التعددية، فهو لا يجسد مفهوم الحكم بما أنزل الله، فما أنزل الله يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، ومن تطبيقات حكام العدل والشورى الراشدين، ومن أستن بسننهم. وهو-تلقائيا- غير سلفي، ولا علاقة له بمنهج السلف الصالح، ولا علاقة له بمنهج أهل السنة والجماعة السلفية الصافية تسامح وتعايش وإصلاح سياسي أولاً ، إنما هو من أدعياء السلفية

. وهذا يستدعى الخروج من ضيق نموذج الدولة المذهبية والقبلية والطائفية, إلى سعة نموذج الدولة الإسلامية السمحة، التي تؤمن بتعددية أهل القبلة، كما جسده النموذج القديم الخلفاء الراشدون، في تعاملهم مع الأقليات غير الإسلامية أو مع الفرق الإسلامية.

المبدأ الرابع: تعود الناس على الالتزام بالأسلوب السلمي في حل أي صراع داخل الأمة:

(أي قصر الأمر بالمعروف على اللسان، والتجمعات الأهلية).  وتجنب مثيرات الفتن والفرقة، والالتزام بحل الخلاف بين أفراد المجتمع وجماعاته الصراع الرمزي السلمي وعدم تجاوزه إلى الصراع المادي الدموي. ومقتضاه أن تسود بين الناس قيم التعايش الاجتماعي, كالتسامح والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن, والتكافل والتعاون, وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمى, وهذا مايعبر عنه بـ(السلمية), وحاصل ذلك أن يلتزم الناس جميعاً, افراداً وجماعات بالروح السلمية أي بحل أي خلاف بالتشاور والتحاور، فيصبح الصراع الرمزي ,هو القاعدة المهيمنة, عند الاختلاف , ويحل محل الصراع المادي.

ومقتضى مبدأ الالتزام بحل أي خلاف سياسي أو اجتماعي، بالأسلوب السلمي أنه لا يجوز للقيادة أن تحكم المجتمع بالعنف المادي, فالعنف المادي أداة للسيطرة مرفوضة، سواء كانت للبقاء في السلطة, أم للوصول أليها,

 لأن القوة العسكرية والبوليسية لا تصنع حقاً ولا أمناً، فضلاً عن أن تصونهما, لأن الحق والأمن المكتسب عن طريق قوة الجبر والقمع, يتلاشى بتلاشي قوة الجبر، وقوة الجبر تحمل بطبيعتها جنين فنائها، لأنها كدودة القز تنسج حولها، ما يخنق أنفاسها, وما يتوصل إليه بالعنف, ينتزع أيضاً بالعنف, لأن كل حكم مهما قوي وبطش لن يستقر ولن يستمر, ما دامت وسيلة بقائه أو أمنه هي أضلاع مثلث القمع في الدولة الجبرية: بوليساً وتربية و قضاءاً إنما هو سريع الاختلال.

لماذا ؟ لأنه مولد طبيعي للعنف الاجتماعي والسياسي, فيصبح المجتمع لهوة في شقى طاحونة شق العنف الحكومي وشق العنف الأهلي المضاد, إن القمع منهج متى استخدمته الدولة ضد مواطنيها, أدى إلى تلاشيها, يمكن صياغة هذا المبدأ بالعبارة التالية: (القمع وفيٌ لمنهجه, وليس حليفاً ولا وفيا لمنتجه) إن من يعود أبناءه على استخدام المسدس، دون أن يربيهم على التسامح, يمكن أن نجد أحد الأولاد قد صوب المسدس إلى رأس الأب في أي خلاف، كما قال الشاعر:

وخلتهم سهاماً صائبات       ×         فكانوها، ولكن في فؤادي

حصر حل أي خلاف سياسي أو اجتماعي بالسلم والحوار، لكي لا يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، كما حذر الحديث الشريف. وترسيخ مبدأ السلمية في حل أي نزاع اجتماعي أو سياسي، ورفض أسلوب العنف طريقا إلى الحكم أو للتمسك به.

المبدأ الخامس: الشورى نظاما اجتماعيا وتربويا أيضا:

 بأن تكون الشورى (نظاما) للإمة،تربويا وأسريا واجتماعيا وسياسيا. الشورى نظاما:بناء على أن العدالة أساس الحكم, وأن شجرة العدل, لا تنمو إلا في ظلال الشورى وأن العدل لا بد له من حارس هو الشورى، تصبح الشورى, عند جدولتها في المركز الثاني بعد التوحيد، على مستوى الجماعة والدولة، ويصبح الفرق بين الحكم الإسلامي واللا إسلامي هو الشورى الشعبية الملزمة. والشورى الجماعية ملزمة, حتى ولو كان رأي الناس خطأ, كما طبق النبي صلى الله عليه وسلم. ولاسيما في عزوة أحد، وكما قرر جمهور الفقهاء، كما نقل ذلك النووي في شرح صحيح مسلم.

المبدأ السادس:التنظيم  والتعاون والتجمع المدني الأهلي:

الذي تمتاز به الأمم المتمدينة، عن الأمم في طورها البسيط، وذلك يتطلب تنظيم التجارة والصناعة والزراعة، ووسائل العيش والسكن والإقامة والسفر، والصحة والغذاء والمرور.

9=فقدان  التكتلات المدنية:

 سهل على (ولي الأمر)انتهاك مبدأ سلطة الأمة؛

عبر  دركتين

الدرك الأرضي: أهل الحل والعقد هم الأمراء والفقهاء

الدرك السفلي: الأمراء يطوعون الفقهاء

فصار أدرى من الأمة بمصلحتها  

النظام الأبوي البدوي يتلبس بالسنة::

    أن أهم نقطة أضعفت الحضارة الإسلامية العباسية كما ذكرنا مراراً هي ضعف الفكر السياسي والقانون الدستوري, المشكلة الكبرى في هذا الحقل، هي الإخلال بالمفهوم الشورى للحكم العادل. أن الحاكم اعتبر منذ العصر الأموي عصر ظهور بدعة الحكم الجبري الجائر, بـ(ولي الأمر), والولي هنا محمل مفهوم الوصاية على الأمة, إنطلاقاً من مفهوم (النظام الأبوي) القبلي، كمفهوم قومة الرجال على النساء، ووصاية العقلاء على السفهاء، ورعاية الآباء الأبناء، وكفالة الأعمام الأيتام، فكان هو (ولي الأمر) رأس السلطات الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية. إن نظرية استئثار الحاكم العربي المعاصر بأزمة السلطات الثلاث, مسألة لم تنبت من فراغ, إنها مسلمة من مسلمات التراث العربي لاسيما الفقهي, حيث يعتبر (الإمام) حاكما مستبداً (مطلقا), وأظهر إجراء لهذه النظرية أنه اعتبر أدرى بمصلحة الأمة في أمورها العامة منها, ولذلك قيل “الإمام أدرى بالمصلحة”. فاصبح بديلاً عن أهل الحل والعقد من أهل الرأي والتدبير والخبرة والعلم والإخلاص و (عرفائها), الذين تثق بهم وتنتخبهم.

ورغم هشاشة تأسيس هذه النظرية, فإنها صارت من مسلمات النموذج السياسي العباسي, الذي أخل بمفهوم العدالة الاجتماعية والقضائية معاً, وبنيت عليه تفريعات وتطبيقات عديدة, إذ لم يكن لدى الناس إدراك كاف, بأن اجتماع السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في قبضة واحدة, يعنى انعدام حرية الأفراد وسيطرة الاستبداد الذي هو مطية كل فساد, وضياع حقوق العباد, مهما كان للسلطان من الصلاح والسداد.

واستقر الأمر على أن من صلاحيات (ولي الأمر) أن يصدر من التنظيمات والقوانين ما يراه مناسباً, ومن واجب القضاء ورؤساء الدواوين, والناس أجمعين, أن ينفذوه هذه الأنظمة, ما لم تكن مناقضة مناقضةً صريحة نصاً قطعياً, ولو كان لفقهاء الأمة وخبرائها رأي مخالف, لأن اجتهاد ولي الأمر يلغي اجتهاد الناس ويحسم التنازع في كل أمر خلافي.

إن نظرية ولي الأمر في التراث، صورة من صور (البطل) الملهم، الذي هو كالقلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وهي نظرية أيضاً ثبت في حقائق علم الاجتماع السياسي، التي اعتصرت من تاريخ الأمم والحضارات أنها من الترهات.

حل الحاكم  محل الكتاب والسنة  ( وأهل الحل والعقد)معا في فصل النزاع

وفي ومفهوم (ولي الأمر) أيضاً خلل أصولي, في فقه الكتاب والسنة، أنتج أن حكم (الحاكم) نهائي في حسم التنازع والخلاف, وواضح أن الفقهاء المفرطين (أسرى المناخ السياسي الجائر), عندما طال عليه الأمد, نسوا أن الحاكم المقصود بهذه القاعدة هو القاضي لا السلطان, وأن الخلاف الذي ينتهي وينحسم بحكم القاضي, هو خلاف الخصومة في حق خاص, بين مدع ومدعى عليه , بين يدي قاض ينهى التنازع فيه قاض لا سلطان، وليس خلافاً في تحري وسائل حفظ حقوق ومصالح الشعب، التي لا يبت فيها إلا المختصون والخبراء من أهل العلم و الرأي الثاقب، من من أولتهم الأمة ثقتها كما قال تعالى “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين ييتنبطونه منهم” (النساء:83)، إذ لا يجوز للسلطان في الشريعة؛ إن يلزم الناس باجتهاد، كما ذكر ابن تيمية والقرافي، (انظر فتاوى ابن تيمية 3/338-240، والأحكام للقرافي:110-114).

ومن المعروف أن أغلب الأمور التي تقوم عليها حياة الناس, من منطقة المتغيرات, التي وضع الإسلام مبادئها, وترك تفصيلاتها, ونصوصها محدودة محصورة. وبذلك ندرك مدى سعة حجم المنطقة, التي أباح فيها الفقهاء المفرطون للسلطان, أن يلزم الناس فيها باجتهاده.

من أجل ذلك فإن ما في الدولة العربية المعاصرة من استبداد، إنما هو في جذور الفكر النابتة في ظلال الاستبداد, وهو ينم عن خلل في مفهوم طبيعة التعاقد الاجتماعي (البيعة), بين المجتمع والدولة.

عندما صار السلطان وكيلا على الأمة لا لها:

وبذلك تلاشي سلطان المجتمع شيئا فشيئا, وابتلعته الدولة, عندما التفت على أهم إطار أهلي للمجتمع المدني, وهو المسجد, فالمسجد كان إطاراً من أطر التجمعات المدنية الأهلية, فتحولت المساجد إلى توابع، تدور في فلك للسلطان, يعين خطباءها وأئمتها ووعاظها وقصاصها, ويهيمن على خطابها.

 فما دام هو الإمام الأكبر، وقد جعل القضاة له نوابا، فما المانع من أن يكون أيضا قطبا، تدور حوله المساجد, فيستخدم سلاح الأرزاق المرتبة, لكي تظل المساجد جزءا دائراً، في فلك السلطة الحكومية الجائرة، وقنوات دعاية وإعلام, تدعو له وتمجده, أو تصبر الناس على ظلمه, وتوهمهم أن من صبر على جور السلطان، ضوعف له الثواب يوم الحساب. (كما ذكر المرداوي في الإنصاف).

 وربط الفقهاء الغافلون كل شيء بالسلطان, فاشترطوا إذنه, حتى في إقامة جامع لصلاة الجمعة. حتى في الاستغاثة ودعاء القنوت. حتى الدعاء وهو تضرع إلى السماء، لا بد من أن يستأذن فيه السلطان!، حتى المطر ينبغي أن لا يستمطر الرعاة الغيث لمواشيهم إذا أمحلت الأرض إلا بإذن السلطان.

حتى أخلوا بالعقيدة وهم يخالون أنهم بها يلتزمون، ودمروا منهج السلف الراشدي المصلح، وهو يتوهمون أنهم عنه يدافعون، وتنكبوا طريق السنة والجماعة، وهو يظنون أنهم لها سالكون. وكل من قال إن منهج أهل السنة والجماعة أو إن المنهج السلفي هو تهميش العدل والشورى، والقول بالصبر على جور السلطان. فهو إما غافل أو جاهل، أو أسير صياغة الثقافة الإسلامية في عصور الإخفاق أو يقصد التحذير من الإصلاح بالسلاح. (انظر مزيداً من التفصيل والأمثلة في مبحث السلفيات من كتاب: من قص جناحي الإسلام).

د-واستبعد المستبد العرفاء  والخبراء من مفهوم (أولي الأمر) واختصص به الحاكم  وأقاربه وفقهاؤه  وحاشيته:

إن تقرير مصالح للناس, إنما يجب أن يكون في الإسلام من سلطة تمثل إرادة الناس, أي أهل الرأي والحل والعقد أو(البرلمان) الذين يجب على الناس أن يختاروهم من أهل العلم و الرأي الثاقب/ من ذوي الاستقامة والإيثار، والنصح للمسلمين والشجاعة، استجابة لقوله تعالى: “وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم” (النساء:59).

ولا يمكن نيل حقوق مدنية فضلا عن السياسية ولا تحقيق عدالة قضائية, ولا عدالة اجتماعية, إذا صار من حق السلطان إصدار اجتهاد في مسائل خلافية, وتشريع أنظمة, يلزم الناس بها.

 ومجلس النواب-اليوم- هو الهيكل الذي تنطبق عليه مواصفات (أولي الأمر)، من أهل العلم الرأي فيها القادرين على استنباط الصواب مناط إدارة الأمة ومرآة إجماعها، أولئك هم المفوضون بتشريع أمورها، بعد القرآن والسنة (كما في تفسير المنار والرازي، آيتي سورة النساء، وهناك أكثر من خمسة عشر مانعا معتبرا، يمنع تخصيص الحكام بـ(أولي الأمر)، وأكثر من عشرة موانع معتبرة؛ تمنع استفراد الفقهاء بـ(أولي الأمر)، لا يسمح موضوع المقال بتفصيلها هنا، وهي في كتيب (البرهان بقوامة الأمة وسلطتها على الحكام، وأن مفهوم(ولي الأمر) و(أولي الأمر) العباسي، من تجليات التخلف السياسي).

ولنفترض أن صيغة الحكومة.المطلقة صالحة, للدولة القديمة, ألا ينبغي للفقهاء المعاصرين, الذين يقدمون نظرية الجمع بين السلطات الثلاث, للدولة الإسلامية الحديثة, أن يدركوا أن الجمع بين السلطات الثلاث، لو صلح لدولة قديمة, لما أصلح الدولة الحديثة؟ ولذلك حديث في مقال تال.

 لماذا يستطيع فرد متغطرس يستمد قدرته على القيادة من أنيابه وأظفاره، لا من حكمته وأمانته, أن يدوخ أمة فيها ألوف الفضلاء من النخب, من الفقهاء والمفكرين وأساتذة الجامعات والمثقفين, والمحتسبين والمخلصين.

لأن الأمة لم تتجمع (تجمعات أهلية مدنية) وتنظم قواها, وتصدر بيانات ومنشورات, وتشكل روابط وجمعيات، و تصدر أفكارها لتنوير الناس في بيانات ومنشورات, وتضغط للتأثير على الدولة, اعتصامات وتظاهرات وإضرابات. من أجل ذلك يستخف بها كل طاغوت جديد، كما قال الشاعر:

كل قوم صانعوا فرعونهم   ×××   قيصر قيل لهم أم قيل كسرى

الخاصة، فضلا عن عموم الناس، في معجم الطغيان إنما هم الرعاع والدهماء، عندما يقبع كل منهم في تخصصه ومكتبه ومدرسته ومسجده، ومصنعه ومتجره و مزرعه، وتنمو الدروشة، ويصبح حمله الكتاب كالقطعان، من فقهاء وأساتذة جامعات فيها ومفكرين وكتاب وشعراء ومثقفين, وبدلا من أن يكونوا (عرفاء) الناس ومن أولي الأمر ذوي الرأي الثاقب والجهاد السلمي، ويصبح السلطان قطبا يدور حولهم الجميع، ويتحولون إلى شياطين خرس مشاركين بكلامهم وصمتهم، في نحت (تمثال) الطاغية ودهنه والطواف حوله, ويصبحون. كما قال أبو الحسن الجرجاني:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم    ×××    ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا، ودنسوا       ×××    محياه بالأطماع حتى تجهما

 كما قال الله تعالى: “وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا” لأن القياس يقول أيضا: يولي الله بعض الصالحين بعضا.

10=فقدان  التعددية يفضي إلى  الدولة المذهبية والطائفية القامعة المنتجة لجميع أشكال التمرد والعنف:

السياسي المتمذهب يصل إلى السلطة ولكن:

يقترن ضيق الأنق الفكري، بضيق الأفق السياسي، وهذا ما دار حوله ابن خلدون في المقدمة :عندما قال إن التمذهب وإلزام الناس بالمذاهب ، إنما هو بسبب السياسة الغاشمة، واستيلاء ذوي الأغراض على الملك« فهناك علاقة ما بين أحد المذهب الفكري والاتجاه السياسي. وكثيرا ماكانت السياسة،وراء خمول اتجاه فكري أو ظهوره كما ذكر المقرّي في كتاب ( نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب )، عن سبب تمذهب أهل الغرب بمذهب الإمام مالك ، بأنه جاء  بإشارة من السلطة ، لأمر سياسي أيضاً .

         هذا من حيث الظاهرة أما من حيث التعليل، ففي المسألة تفصيل، هذا التفصيل يحتاجه الناس الذين يعتبرون السياسة شراً مطلقاً، ويرون السياسة انتهازية مطلقة، وهذا وذاك غير صحيح، لعل الأقرب إلى الصواب، في علاقة الفكري بالسياسي، أن السياسي لا ينجح إلا بعقيدة أو بفكرة بجمع الناس حولها.

 ولما كانت المذاهب الفكرية، قد تكون قاعدة إصلاح اجتماعي، قد تشكل أساساً آنيا للاستقرار السياسي، ومن هنا يبحث السياسي عن مذهب يقيم عليه سلطانه، كما وجدنا ذلك في الدول،التي قامت على أساس مذهبي ، حيث تمتزج العصبية الدينية بالعصبية السياسية، حين تتخذ الدولة المذاهب إطاراً لسلطتها.        

 من الطبيعي أن تلتزم الدولة بأحكام محددة ، في القانون الجنائي،والقانون الإداري والمدني ، ولكن إلزام الناس بمذهب محدد، في قضاياهم المدنية الشخصية ، التي لاتصل إلى القضاء، يعد انتهكاكاً خطيراً لحقوقهم.

*الطاغية المتمذهب مبتكر قانون: أثر الخلاف بين المذاهب تنشغل  الأمة  عن جورك

 و أفظع منه استثمار المذهب الفقهي أو العقيدي،لافتة للصراعات السياسية ، كما صنعت الدولتان العثمانية والصفوية،اللتان جعلتا المذهب السني والشيعي لافتة، لاستباحة إراقة دماء  المسلمين ،لكي يتناحر أهل القبلة، تحت شعارات الجهاد، وكان هذا استغلالاً إدّا للدين .فقد صك الصفويون والعثمانيون،من العصبية المذهبية لافتة، يجمعون من حولها الناس على حكمهم ، فغلوا في المذهبية غلواً كثيراً.

وكان لهذا الصراع أثر سيء على المسلمين ، أتاح للمستعمرين التدخل في شئون المسلمين، لأن كلا من الصفويين والعثمانيين ، استعان بالأجانب ،من أجل القضاء على خصومه المسلمين.

فإذا جهل رجال العلم شرائط العدل الاجتماعي و لاسيما مبدأ الحرية والتعددية والتسامح الفكرية، وأنها مدماك من مداميك الاستقرار وجهل رجال السياسة أيضا هذه المفاهيم انزجوا متعانقين لهدم الفكر والدولة معاً لأنهم يمارسون غلطاً فكريا سياسيا, قد يسميه أهل الثقافة, إخلاصاً وعلما واجتهادا، و قد يسميه أهل الحكم جهاداً وحراسة للدين، و لكنه قمع فظيع لحقوق الناس.

-أضحية خالد القسري

وهذا ما وقع فيه بعض ولاة الدولة الأموية، حينما قتل عددا من العلماء, أو اضطهدهم وضيق عليهم, على اعتبار أنهم مبتدعون.

فالنزق السياسي, هو الذي دفع خالداً القسري إلى قتل عالم مبتدع، كالجعد بن درهم من المعتزلة، بحجة القول بالقدر,و إلى قتل بعض علماء السنة بحجة القول بالتجسيم، ولو كانت له حنكة سياسية، لأدرك أن القتل لا يلغي الفكر، بل إن القتل يحيي الأفكار، لأنه يسقيها ماء الدماء، ولو كانت له معرفة دينية أو علمية، و لو كان مقسطا منصفا، لأدراك أن القول بالقدر أو بالتجسيم؛ ليس أعظم بدعة من تفضيل بني أمية على الأنبياء، ولو كان إنسانا أخلاقيا, لأدرك أن قتل الجعد, وبناء خالدالقسري, لأمه النصرانية كنيسة في الإمارة, كيل متجانس بمكيالين غير متجانسين. ومن الغريب أن خالدا نفسه اتهمه الناس بالزندقة والإلحاد، ومن العجب العجاب، أن يمجد سلفيون عباسيون خالد القلسري، على فعلته الشنيعة، و كأنه من الحكام المقسطين المجاهدين، وأن يغفل عن دوافعه كثير من الفقهاء، الذين قال حاديهم:

 شكر الضحية كل صاحب سنة   #   لله درك من أخي قربان

ولا بد أن نعتذرلكبوة جواد مجاهد كابن القيم رحمنا الله وإياه، وكفى مثله أن تعد معائبه

 ومثل ذلك قتل هشام بن عبد الملك غيلان على البدعة، ناتج إما عن حقد شخصي, لأن غيلان كان أمينا على بيت المال, لعمر بن عبد العزيز، أو لأن غيلان كان شديداً في الاحتساب على السلطة، يشنع بالمظالم، أو لأن الفكر القدرى فكر يؤمن بحرية الإنسان في الاختيار، وهذه النزعة ذات أثر في تأليب الناس على الحكم الأموي الجائر. وإن غلا في ذلك حتى كاد يتصورها مطلقة، بصفته رد فعل للمذهب الجبري.

 وقد رأى قصار النظر من بنى أمية، أن الأمة كالقطيع, يجب أن تساق بالجبر والقمع، فاستثمروا المذهب الجبري، لكي يبثوا اليأس والإحباط في الناس، فيتصور الناس, أن لا طاقة لهم في دفع ظلم السلطان أو منعه، لأن ظلم الأمويين إنما حل على الأمة بسبب ذنوبها ومعاصيها، وعلى أن السنة أن يكتفي المظلوم; بالدعاء على الظالمين، وأن ينتظر العقوبات السماوية، وأن يؤجل نيل حقه في الكرامة والمساواة، إلى الدار الآخرة. وأن هذه المظالم من أقدار الله الكونية، التي ليس للإنسان أمامها, إلا التسليم والاستسلام.

ونسوا أن ظهور من ينتقد الأخطاء، أكثر ضرورة للحكم من شيوع من يمدح; مافيهم من عدل، فضلا عن من يزيف الوعي الاجتماعي، فيطبل و ينافق ويكذب.

كان هناك تمزق ثقافي واجتماعي, أغفل فيه دعاة الإصلاح; أن انقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك؛ كان أمرا طبيعيا في الأعراف العربية المدنية، وأن القفز فوق هذه الحقيقة الاجتماعية, مهما كانت دوافعه ومبرراته الشرعية, تجديف ضد الحقوق الطبيعة التي عرفها الناس بما ألهمهم الله من وحي الطبائع و جاءت لتقريرها و تأكيدها الشرائع ونسوا أن خير سبيل يثبت به الحاكم شرعيته هو العدل والشورى.

 فالوراثة في الحكم أو القيصرية أو الكسروية, هي نتيجة اختلال علاقة المجتمع بالدولة، و قد تستمر في الأمة التي لم تستقر فيها قيم المجتمع المدني بالعدل قرونا، ويقبلها الناس بالتسامح واللين، بل إن الناس اعتبروا عمر عبد العزيز خليفة راشداً خامساً، و لم يسألوا كيف جاء إلى الحكم.

11=عمر بن عبد العزيز أعرف بالسنة أم  أصحاب قانون:قمع أهل البدع:

وليس خالد القسري ولا هشام ولا أمثالهما بأصلح من عبد الله بن الزبير الذي اجتمعت على الصلاة خلفه كل الفرق، ولا عمر بن عبد العزيز، هذا الملك الذي أثنت عليه جميع الفرق، حتى رثاه فيها الشريف الرضي الشيعي  بعد بضعة قرون:

ياابن عبد العزيز لو بكت العيــــــــن فتى من أمية لبكيتك

وعمر بن عبد العزيز أعرف بالسنة والبدعة وحدود الشرعة، من قتلة الجعد بن درهم, والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، ولذلك ولى غيلان بيت المال.

كثير من الباحثين عندما يقفون على أمثال هذه الوقائع, يدركون أن ذلك القتل وذاك القمع جريمة سياسية، والحاكم الذي يمنع الأرزاق و يقطع الأعناق، إنما هو -كسائر السراق- يهتز من صرصرة أقلام في أوراق، ومن تجمع الناس في رواق، والحاكم الذى تهز كرسيه الأوراق، ليس سياسيا محنكا، يعرف كيف يدير مكينة الحكم بالعدل والحرية والشورى.

هو قتل سياسي إذا قدمنا السياسة على أنها الانتهازية والتضليل، أما إذا قدمنا السياسة على أنها البصيرة والعدل والشورى، فهو جهل سياسي أيضا، وهو إضافة جديدة, لخزان من الأحقاد الاجتماعية تراكمت وتعاظمت، حتى أودت  بالدولة الأمويةولكن السؤال الكبير كيف انخدع الفقهاء وعلماء العقيدة وقدموا الجزارين والطغاة في ثياب دعاة السنة الهداة

 دموية الأمير السياسي القامع وسذاجة الفقيه القامع،ذهنيتان تنموان لتشكلان توأم تمثال القمع ، وتصبح ثنائية القمع ذي الوجه الديني عبر الفقيه، و الوجه السياسي عبر الأمير، هي أساس الفساد.

والعلماء والفقهاء فيهم خير كثير، وفيهم عدد كبير من الراسخين في العلم، الذين يتمتعون بحس سياسي،(حسب حصر القرطبي الرسوخ في العلم; على ذوي البصيرة السياسية من علماء الدين)، هؤلاء يدركون مفهوم التعددية و التسامح في الإسلام، و إن كان عددهم قليل، كالغزالي و ابن حزم والشاطبي و الذهبي. هؤلاء يدركون أن تقديم مذهب من المذاهب; على أنه هو الدين الذي لا يجوز للمسلم غيره، إنما هو قمع صحراوي يقدم الإنسان نفسه من خلاله على أنه مالك الحقيقة, الوصي على الخليقة.

من هؤلاء الراسخين في العلم;ابن تيمية, الذي كفر أناساً وكفروه، وبدع أناساً وبدعوه, فأفتى أقرانه يسجنه وقتله, فسجن بسبب دعاة القمع في الفكر الديني مرارا. وفي مرة  من المرات;انقلب السحر على الساحر، فإذا بالسلطة التي سجنته واستبعدته لتستدنيه وتستعديه على مناوئيه، وتربه ما كتب فيه أقرانه الألداء,من فتاوى بكفره ووجوب قتله، وتطلب منه أن يكفرهم كما كفروه، وأن يفتي لها بقتلهم كما أفتوا, قال ابن تيمية “ففهمت مقصوده”.

أدرك ابن تيمية أن السلطة غضبت على قوم ناوءوها، و أفتوا بخلعها، فأرادت قتلهم أو سجنهم بأدوات دينية، وأنها تبحث عن مبررات دينية، فلم يجارها، لأنه كان ذكيا و أخلاقيا معاً في هذا الموقف.

ولكن كما قيل في المثل: من الصعب أن تكون أخلاقيا إذا كنت قويا، ومن الصعب عندما تعتمد على محكمة الضمير أن تكون موضوعيا،  فالتاجر والمشهور والعالم, يمكن أن تسكرهم الثروة والجاه والعلم, فتقودهم إلى الغرور.

بقي أن نسأل هل كل ماقال أهل القبلة من بدع الأفكار؛ أضر على الأمة من جور الحجاج وآله واستبدادهم؟زلكي لا يكون لدى الناس مقياسان للبدع، فيتغاضون عن البدع السلطانية الكبرى، ويلا حقون البدع الشعبية، وهي في عداد الصغرى.

 

 12= كيف همش العدل وقمعت الحرية

باسم السلف الصالح وأهل السنة والجماعة

مسلسل تنازلات  الفقهاء بعد فشل السلف الأموي المطالب بحقوق الأمة السياسية  :

بعد إخفاق الفقهاء الأحرار في ثورة القراء وما بعدها، عم الإحباط، فأصيب الفقهاء والقراء باليأس والقنوط، فأرسلوا أقوالاً تعبر عن يأسهم من صلاح الحكم، فجاء من بعدهم فاعتبروا أقوالهم هي النبراس، وضل بها الناس سواء الصراط، هذه هي بداية الحكاية. وصارت السلفية سكوتا عن الطغيان، بعد أن كانت إصلاحاً سياسيا. وصار جوهر العقيدة الرضا بالطغيان. وأدخلوا في العقيدة “الصبر على الإمام الجائر”.

لم يأت جيل أحمد بن حنبل حتى استقر فقه الضرورة والإحباط. ماعدا أقوال متناثرة عند بعض الفقهاء، لا تشكل نظرية متسقة، وأغلبها حقا كما وصفتها الهيئة القضائية (مهجورة)، ومن يستطيع أن يجهر بها فضلا عن أن يطبقها في عهود الطغاة.

ومن الطبيعي أن تكون الحرية والعدالة(ثانوية)   في معيار أمثال الماوردي وابن أبي العز شارح الطحاوية، والقاضي عياض، وابن مجاهد الأشعري شيخ الماوردي، والبربهاري.

وهكذا صاغ الفقهاء منظومة جديدة ركزوا فيها العقيدة في أمور لا تجلب لهم أذى السلطان. وأغلبها غيبي ثانوي ظني اجتهادي. وأسقطوا من نسيج العقيدة المبادئ القطعية في فقه الإمامة الكبرى.

في ظلال لقب ولي الأمر:الحاكم الأب/ الولي/ الوصي لا الخادم:

استرسل الفكر العربي القديم، في الدوران حول خرافة (البطل)، الذي يغير كل شيء, وكأنه القلب، وكأنما الشعب هو الجسد . واختصروا الصلاح بصلاح الحاكم والفقيه، وهمشوا دور الشعب، وقدموا أساليب توافقية للمشكلات, فأعطوا الحكام سلطة مطلقة, واعتبروا الشورى غير ملزمة, و أشاعوا أقوالا تمجد الحكام, كأقوال الفضيل بن عياض, و البربهاري وسهل بن عبدالله التستري، وابن أبي العز شارح (الطحاوية) ونحوهما، ثم دسوها في نسيج العقيدة، كي لا يجرؤ أحد على مناقشتها (انظر كتاب السنة للبربهاري).

     وأشاعوا الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمؤولة، التي تقدس الحاكم كحديث “أعطوهم _ أي الحكام – مالهم وسلوا الله الذي لكم”, وحديث “أطع الأمير ولو ضرب ظهرك وسلب مالك”. وهو حديث استدرك الألباني على مسلم فقال: إنه ضعيف الإسناد.بل هو منقطع شاذ(في اصطلاح المحدثين)، فلا ينبغي أن يعتضد به فضلا عن أن يستند إليه.

والأحاديث التي رواها الطبراني في مسند الشاميين, التي تؤصل انحراف مفهوم الإمام، من معناه الشرعي, أي أنه وكيل عنها ونائب عينته لكي ينفذ إرادتها, إلى وصي عليها كأنما عينه الله, وكأنه ليس لأحد غير (الله) الذي من ولاه أن يحاسبه, فليس علينا إلا الدعاء له بالصلاح أو عليه بالهلاك, بل بعضهم (كالبربهاري) نهى عن الدعاء عليه.

 ومن أجل ذلك خلعوا عليه لقب (ولي الأمر) وهو لقب ما أنزل الله به من سلطان، جسد الاستبداد المفضي إلى الطغيان، وكأنهم نسوا أن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، وشاع الاكتفاء بالدعاء للسلطان والدعاء عليه, أسلوبا نكوصيا لمحاربة الجور, وسمي سهام الأسحار.

الذين جعلوا القران عضين:

عندما يتحدث عديد من الغافلين من الفقهاء, في عهد دول الطوائف الجديدة اليوم عن تطبيق الشريعة يتبادر إلى أذهانهم من تطبيق الشريعة, تركيزها على العقوبات الزواجر عن المنكرات, يتبادر إلى ذهنهم الجنايات الفردية وعقوباتها، وإقامة الحدود على الأفراد عبر القضاء، وإعفاء السلاطين والأمراء.

 وينسون أن أول تطبيق لها هو العدل في قسمة المال، وتولية الاكفيا، والالتزام بالشورى الجماعية. والتعددية والحرية السامية والكرامة فهذه المبادي فهذه المبادئ أساس الحكم بما انزل الله، فيقدمون صورة ناقصة للشريعة, تهمل المفهوم الكلي الشامل المؤسسي, وهو العدالة الاجتماعية, والحريات السامية والحقوق العامة، وهم في ذلك يقدمون صورة جديدة للـ”المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين”.

    وأفرز هذا الاختلال الفكري أعرافاً اجتماعية مختلة، رست عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع، وأصبحت قوانين غير مكتوبة في الأعراف الاجتماعية والسائدة، مكتوبة في نظام القضاء، بحيث صار القضاء في النموذج العباسي، سلاحاً من أسلحة إرهاب الدولة، فلا تحتاج عند قمع معارضي ظلمها واستبدادها، إلى محاكم عسكرية ولا بوليسية استثنائية، ما دام بند التعزيز عند القضاء، يتراوح بين ضربة بالسوط وضربة بالسيف. فهو كفيل بإقامة محاكم التفتيش من دون ضجة ولا إعلان. وثبت الاختلال الدستوري معرفياً، بإدخاله في مسلمات العقيدة، التي من خالفها اتهم بمخالفة السنة، ورمي في إحدى زوايا الفرق المنبوذة في التراث، كالخوارج والمعتزلة والزيدية.

-زلات السلف العباسي الصالح صارت فقها سياسيا:

وهذا يقتضي التنبه إلى زلات بعض الفقهاء في عصر الطوائف الجديدة والهيمنة الإفرنجية، الذين يغفلون أصول السياسة الشرعية السبعة كالحرية السامية والتعددية والشورى والعدل، لأنهم لا يقدمون فكراً إسلاميا صحيحا، فضلا عن أن يكون سلفيا أصيلا، إنما هم ينسجون فقها سياسيا كسرويا صحراويا، ينسبونه إلى بعض رموز السلف الأموي أو العباسي الصالح، وهو ابتسار للنصوص يعتمد على منهج التلفيق ويقوم على ما يلي:

1- زلات السلف الصالح، كأقوال عدة لسهل بن عبدالله التستري .

2- تأويل كلمات للسلف الصالح، ككلمات لابن القيم وابن تيمية.

3- كلمات للسلف الصالح قالوها في أحوال خاصة بحاكم جبري، ولكنه محافظ على كيان الأمة من العدوان كأقوال الإمام أحمد في عهد المعتصم، فمثل هذه الأقوال لا يمكن تطبيقها على مثل المسعتصم.

4- علماء لا يعرفون الأحكام السياسية، لأنهم زهاد منقطعون عن الناس أو مخدعون بظواهر صلاح السلطان، كأقوال الفضيل بن عياض.

5- علماء محبطون يائسون من صلاح الأمة، ثاروا وقاوموا الظلم والاستبداد، فخذلتهم الجماهير، فران عليهم اليأس والقنوط كأقوال للحسن البصري وعامر الشعبي- بعد هزيمة ثورة القراء-، والشافعي في مذهبه الجديد،- بعد هزيمة ذي النفس الزكية-، وأحمد بن حنبل -بعد المحنة-، والقاضي ابن أبي العز (شارح الطحاوية) -بعد سجنه-.

وجاء بعدهم علماء وجدوا تلك الكلمات العابرات، في حالات الإحباط والإسقاط، فنقلوها من حالات الاضطراب والاضطرار، إلى أحكام دائمة في أحوال الاختيار، وكونوا من ذلك فقها سموه السياسة الشرعية، وأوضح مثال لذلك الماوردي في الأحكام السلطانية. ثم صارت هذه الكتب منظومة، لم يستطيع أحد من الفقهاء الأحرار المجاهدين المصلحين تفكيك تلفيقها، ولاسيما الإخلال بالمبادئ الثلاثة: الحرية السامية والتعددية والشورى.

 حتى  جاء جمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي ومحمد عبده، فهؤلاء الفقهاء(السياسيون) الأربعة بدأول تصحيح الفقه السياسي في الإسلام.

13=هل نحصر تنفيذ مبادئ العدل والشورى

 على وسائل العهد النبوي والراشدي؟

*وحي الشريعة لم يأت ليجب ما عرفه الناس بوحي الفطرة والطبيعة:

      ومن أجل تأسيس فقه يعيد منزلة الحكم الشورى إلى أصول الدين الكبرى, ينبغي تعديل (سلم القيم) الذي استقرت عليه الصياغة العباسية الإسلامية عامه والفقه السياسي والدستوري خاصة، بإعادة وإبراز أهمية الجانب المدني من الدين, فالمنظومة الروحية مكتملة غالبها لا تحتاج إلى مزيد اجتهاد ذي بال, أما غالب المنظومة المدنية فهي مجال الاجتهاد.

      وهناك قاعدة أخرى, ينبغي التأسيس عليها في هذا المقام, وهي أن وحي الشريعة لم يأت ليجب ما عرفه الناس بوحي الفطرة والطبيعة, وهذا هو الشق المدني, بل جاءت الشريعة تهذيبا وتتميما وتهذيبا وتأكيداً, لما عرفه البشر بوحي الطبائع والتجارب. إلا المسائل التي جاءت في الشئون المدنية مفصلة، فخطابها خطاب تأسيس, كالمواريث, والعقوبات ونظام الأخلاق. وكل مسألة عرفها الناس بالطبائع والتجارب، فقد أحال فيها القرآن إلى العرف الاجتماعي والسياسي، المستند إلى الحقائق الاجتماعية والطبيعية، كما ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى ((خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين)) من أجل ذلك رسخ القرآن مصطلح الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 ولذلك جاءت المبادئ السياسية والإدارية مجملة, فخطابها -إذن- خطاب تذكير, كالعدالة والشورى, والإدارة وسائل العيش والاكتساب, ونحوها من لوازم المدنية والحضارة. ففقه الإمامة الكبرى مشترك في كلياته بين الأمم، وهو يختلف عن من فقه الإمامة الصغرى، ولوازمها من الأدعية وطرق الطهارة.

    من أجل ذلك فإن كل (وسيلة), تحقق العدالة والشورى, في الدولة الإسلامية الحديثة, وهي لا تعارض نصوص الشريعة، ولا وروحها، ومقاصدها، فإنما هـي مـن الشــريعة, وما أنزله الله عـلى أنبيائه من وحــى الشــرائع, لا يمكن أن يناقض حقائق علوم الإنسان والطبائع, وكل ما هو معروف في الفطرة البشرية, فإنما هو معروف في الشريعة, وكل ما هو منكر في الفطرة البشرية, فإنما هو منكر في الشريعة.

ولو لم تذكر هذه الوسائل والإجراءات والآليات, ولو لم تذكر تفريعات المبادئ في القرآن, ولو لم يقلها الرسول صلى لله عليه وسلم, ولو لم يفعلها الراشدون, كما أصل هذه المسألة الشاطبي، و كما ذكر ابن عقيل الحنبلي في أصول الفقه وابن القيم في الطرق الحكيمة, في غير هذا السياق.

-الفرق بين خطابي التأسيس والتذكير في نصوص الشريعة

   كيف بدأت نظرية ولي الأمر؟، لقد استندت هذه النظرية؛ على أدلة غير مسلمة, ويمكن استحضارها, في ما يلي من نقاط:

   لقد وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ مشرعا وقاضيا وحاكما, ووجدوا الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم, يمارسون تدبير الحل والعقد، وتنفيذ الحكم والقضاء معاً، فظنوا أن كون الخليفة الراشدي حاكما وقاضيا  ومدبرا -أحيانا- يدل على أن السلطة (المطلقة) من هدي السنة, وأن من تطبيق الشريعة؛ أن يمسك الإمام بأعنة السلطات الثلاث في قبضته, ولعلهم اعتبروها سنة نبوية قطعية.

 ولم يفطنوا إلى ضوابط القياس التي  أهمها أن النبي صلى لله عليه وسلم؛ لا يقاس عليه أحد من البشر, لأن القياس عليه قياس مع الفارق, وكل قياس مع الفارق فهو باطل, فالنبي مؤتمن على الأمة, ومعصوم من إتباع الهوى.

  ونسوا أيضا أن الخليفة ألراشدي, عندما جمع -في بعض الأحوال لا كلها- بين السلطات الثلاث, لم يكن يطبق قاعدة قولية صريحة, من قواعد الشريعة, بل كان يمارس اجتهاداً مدنياً, وما فيه اجتهاد فهو مجال خطأ وصواب, فالخليفة الراشدي لا يسن بذلك سنة دستورية, تلغى المبدأ الدستوري الوارد في القرآن من مرجعية الأمة، وكون أهل الرأي والعلم  في الشئون العامة هم  (أهل الحل والعقد) الذين يجسدون إجماعها, ومرجعيتها (بعد الكتاب والسنة) هذا المبدأ يترتب عليه أمران:

_ أن مرجعية السلطات الثلاث هي الأمة.

_ أن الطاعة (المطلقة) لا تكون لغير اثنين: الكتاب والسنة أولا، (وأهل الحل والعقد الذين يجسدون إجماع الأمة ثانياً (انظر تفسير آيتي أولى الأمر من سورة النساء في تفسير المنار). كما أن مبدأ الحكم بالعدل وسد ذرائع الهوى قواعد شرعية. ولذلك حرم الإسلام على الحاكم تولية أقاربه سدا للذريعة.

وإذن نحن أمام أمرين: قاعدة قولية قرآنية قطعية الدلالة والورود, هي الحكم بالعدل وسد ذرائع الهوى والميل وتطبيق راشدي ظني الدلالة والورود, فهل نغفل عن أيهما عليه المعول؟.

إذا تناقض القول والعمل في النصوص الشرعية, فإن الأصل في البيان هو القول, وهو أقوى من الفعل في الدلالة, لأن عمل الشيء ليس دليلاً قطعياً على مشروعيته. لأن الفعل يحتمل الخصوصية والضرورة ونحوهما (كما قرر الأصوليين كالشوكاني في إرشاد الفحول وغيره)

  من أجل ذلك لو صح أن الخليفة الراشدي؛ قلل من استشارة الأمة, أو صح أن راشد يا كأبي بكر وعلي لم يشاور في بعض الأمور، كحرب المرتدين -وهو أمر لم يثبت- كما دلل الكاتب في كتاب (هل نكف علم السياسة عن ما شجر بين الصحابة؟) فإن ما فعله لا يخرق القاعدة الكلية, ولا يجب ما التزم به النبي صلى الله عليه وسلم, من مسألة سيادة الأمة ومرجعيتها ووجوب مشاورتها والالتزام بنتيجة مشاورتها.

14-مبدأ سلطة الأمة كان حاضراً ولكن قصر الخلافة الراشدة لم يرسخه:

قد يحتج من يقلل من أهمية الشورى الشعبية, بأنها لم تترسخ عرفاً معبداً, بصورة قطعية في بعض تصرفات  الخفاء الراشدين, وأننا مأمورون بأتباع سننهم، فكيف نقول بلزوم الشورى ووجوبها؟.

       وجواب ذلك في نقاط:

الأولى: أن الحديث الذي يأمر بإتباع سنن الراشدين إذا صح (قد ضعفه بعض المحدثين الأردنيين) دليل عام.

الثانية: ولو كان خاصاً لما كان صريحاً, بأنهم مشرعون في الدين, فالدين كمل قبل وفاة النبي, وإنما المقصود أنهم يفسرون أحكام القرآن والسنة, بأفعالهم وأقولهم, فإذا فعلوا شيئا يخالف ما صرح به القرآن السنة, فإنما هو من باب الضرورة أو مراعاة الأحوال, أو خطأ في الاجتهاد والرأي.

      الثالثة: وفي جانب السياسة وإدارة الدول, مسألة مهمة من أجل فقه تصرفات الخلفاء الراشدين؛ إذ ينبغي أن نتذكر أن الراشدين كانوا في بداية نشوء الدولة, ولم يطلعوا على ما للأمم الأخرى, من رصيد خبرة و أعراف سياسية متراكم عبر القرون في إدارة الدولة، حافل بالتفريعات والآليات والأطر, فاجتهدوا بحسب معرفتهم, ولو كانوا يعرفون ما لدى اليونان والرومان من النظم, لكانوا أول من توسل بها لتحقق مقاصد الشريعة في الشورى, كالانتخابات والبرلمان. كما فعلوا في تدوين الدواوين وسابقة الراشدين في الجمع بين السلطات الثلاث؛ إنما هي اجتهاد راعوا بها أحوال عصرهم, فهي آنية تناسب عصرهم، وليست معيارية تجسد قاعدة شرعية قطعية كلية, لكي يقاس عليها في كل زمان ومكان.

ومع كل هذه الملاحظات, لم يكن المبدأ الدستوري: (سلطة الأمة) الذي معناه ضمان بعد الخليفة عن الهوى غائبا، هناك فرق بين المبدأ وإجراء المبدأ أو المقصد ووسائل تنفيذه، وإن كان تقسيم أعباء الدولة (وهو إجراء المبدأ) غائباً، ولكن الدولة لم تكن كبيرة ولم تتعدد وظائفها ولم تتعقد طبيعتها، ولم يكن مفهوم الفصل المرن بين السلطات غائباً, وإن كان غائماً, كان لدى الجميع حاكماً ومحكوماً وعي بمفهوم الفصل المرن بين السلطات، الذي بجعل للإمام سلطات يختص بها, وسلطات يشارك فيها, وسلطات لا يختص بها ولا يشارك فيها.

ولنفترض أن الخليفة ألراشدي حجة عندما جمع بين السلطات الثلاث، فقد كان النموذج ألراشدي فريداً, وكانت للمجتمع وقيادته مواصفات تحمي العدالة, إذ إن القاضي يجد من الرأي العام في الصحابة ما يقوى مركزه, وقد أثبت التاريخ أن هذا -وإن أمكن عقلاً- لم يقع في مجتمع آخر, ولا يمكن قياس حكومات لم تستوف شروط الخليفة الراشدي عليه, لأن ذلك قياس مع الفارق, وكل قياس مع الفارق فهو باطل.

15-مبدأ استقلال القضاء حاضراً ولكن إجراءه كان غائما:

 مبدأ الاستقلال حاضر في الذهن، ولكنه لم يكن مؤسسيا، فقد رويت أخبار كثيرة, تدل على أن القاضي لا يجامل ولا يخاف من الخليفة, فقد رفض عمر نقض قضاء أصدره أحد قضاته، وقال: لو كنت مكانه لقضيت بكذا وكذا، فقيل له: لم لا تنقض قضاءه قال: لأنها مسالة اجتهاد.

 وجاءت أخبار تدل على أن خازن بيت المال, يدرك أنه أمين بيت مال الشعب, لا بيت مال الحكومة أو الخليفة, فقد رفض الصحابي عبد الله بن مسعود, خازن المال في الكوفة, أن يعطي أمير الكوفة مالاً, ولما طالبه الأمير بالمفتاح رفض وقال: إنه مفتاح بيت مال المسلمين. ورفض الصحابي عبد الله بن أرقم الزهري, أمر الخليفة عثمان نفسه, عندما أمره أن يعطى الحارث بن الحكم مالاً, لأن ابن مسعود اعتبر الأمر خلاف قواعد صرف المال, وقال: هذا بيت مال المسلمين.

 إذا عبرنا عن خلاصة هذه الأخبار, بعبارة قانونية حديثة، قلنا: إن ابن مسعود الموظف العادي يقول للخليفة: أمرك السامي, مخالف الدستور فلا سمع ولا طاعة إذن.

  ولا جرم أن القول بأن للسلطان أن يمارس عمل القاضي, أو أن ينقضه أو يوقف تنفيذه أو يتدخل فيه, إنما هو غفلة أدت إلى انتهاك صريح لاستقلال القضاء, مخالفة لما عرف عن الخلفاء الراشدين, كما روي عن عمر بن الخطاب, إذ أسسوا قاعدة شرعية, هي عدم نقض حكم القاضي في أي مسألة اجتهادية.

ما معنى مايقول؟ عمر معناه: إني لا أستند إلى نص صريح, وإنما هو اجتهاد ورأي. ولا أتدخل لو خالف القاضي نصا صريحا. أي بعبارة أخرى إلا لو خالف الدستور فمفهوم استقلال القضاء غير غائب، بل حاضر في التطبيق, وهو عرف غير مكتوب, ولكنه كان غائماً غير لا حب الدروب, أي لم يتمأسس (في مؤسسات)، بسبب قصر فترة الخلافة الراشدة، ورسوخ قيم الصحراء في الجزيرة ودخول القيم السياسية الكسروية, لقد كان مبدأ الفصل واضحاً في الأذهان, أي أن الخليفة يشعر أنه مواطن عادي أمام القضاء, الخليفة الراشد علي بن أبي طالب يجلس سواء مع خصمه اليهودي أمام قاضيه شريح، هل هذا سلوك حاكم يشعر أنه القاضي الأول، كان الخليفة يجلس أمام القضاة كما يجلس الخصماء أمام عظمة القضاء، لا كما يجلس الخلفاء في الديوان, ولكن تفعيل المبدأ وتحويله إلى نظرية أو عرف لا حب الدروب، في آليات وأطر وإجراءات واضحة لم يتبلور, ليكون عرفاً مسطرة دستورية قضائية وسياسية لا يمكن القفز فوقها, لا بسبب الغفلة عن المبدأ, بل بسبب حداثة تجربة الدولة اولا, وقصر عمر الخلافة الراشدة آخرا.

 

16=بطلان قياس السلاطين على النبي والراشدين/الفروق السبعة:

هل يقاس خليفة جبري جائرعلى الراشدي الشوري العادل؟:

ولنفترض جدلا أن ما فعله الخليفة الراشدي الشورى يشكل قاعدة شرعية, وأن ما ورد عنه صريح صحيح, فإنه لا يمكن قياس حكام الجبر عليه للأسباب التالية:

1ـ أن الخليفة الراشدي ربيب الحقل النبوي.

2ـ أنه كان فقيها مجتهداً.

3ـ أنه كان قبل تولى الخلافة من (العُرَفاء) البارزين في المجتمع الأهلي، الذين تصدرهم الجماعات لما لهم من جليل الصفات فكان من أولي الأمر (أصحاب  الرأي الثاقب والتدبير الصائب).

4- أنه كان كفيا عدلاً بل من أفضل مجايليه ورعا وعقلاً ورأياً ، فكان له من عقله وتقواه, ما يعصمه من داعية هواه. فكان في أعلى درجات إيثار مصلحة الأمة على المصلحة الخاصة والتضحية بحظوظ ألذات.

5ـ أنه منتخب وخليفة رضا واختيار فلم يكن متغلباً وخليفة إكراه واضطرار.

6ـ أنه منتخب من مجتمع هو أفضل أجيال الأمة, ورعاً ونزاهة, واحتساباً على الحكام.

7ـ أن الخليفة ألراشدي كان شورياً, ملتزماً التزاماً واعياً بإرادة الأمة, عبر مشاورة أهل الرأي والبصيرة, فإذا فات عليه شيء تداركوه.

17-مأزق الاستدلال الحرفي بالنصوص:

      عندما بحث الفقهاء العباسيون المسألة السياسية، سيطر عليهم المنهج الحرفي في فقه الكتاب والسنة -كما أشرت في مقالة سابقة-, وكان من نتائجه أن صارت حقائق الاجتماع الإنساني فيها قولان, ومن نماذج هذا الاختلال ما نحن بصدده؛ وضع أزمة السلطات الثلاث بيد ولي الأمر، و فقد احتوت هذه النظرية على غلط ناتج عن خطأ في مقدمتين خاطئتين:

فكيف يقاس على الراشدين متغلب غير مجتهد ولا شوري عدل؟ وكيف يقاس على قاض مقسط، أمثال يزيد بن معاوية والسفاح والمستعصم؟.

 ولو افترضنا في النموذج العباسي الصلاح الذاتي, لما كان له حرص الراشدين على المصلحة العامة, لأن النموذج الراشدي كان فريدا ولم يجد الفقهاء حاكما طوال أكثر من ألف عام, يمكن أن يعتبر من تابعي الراشدين بإحسان, إلا عمر بن عبد العزيز, الذي قال عنه الفقهاء الأحرار إنه لم يصبح خليفة شرعياً إلا عندما شاور وعدل، على أن الأمة ليست مطالبة بإتباع سنته، لو خالف صريح القرآن والسنة. ولم يأت بعد عمر بن عبدالعزيز أحد يقارب صفاته إلا نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين الأيوبي.

   من أجل ذلك لا يمكن أصولياً البناء على هذه السوابق, لأنها تهمل دليل الاستقراء المعنوي, الذي أكد على وجوب الاعتماد عليه كثير من الفقهاء, كابن تيمية وابن دقيق العيد وابن القيم والغزالي وبينه الشاطبي, لقد أثبت التاريخ أن ذلك سر الفساد, وليس في الشريعة نص قطعي يركنون إليه, إنما هو اجتهاد يقابل باجتهاد 

   وميدان التجربة التاريخية, هو ميزان الآراء في المسألة الاجتماعية والسياسية, لأن الله لم يشرع شيئاً إلا وفيه مصلحة العباد, في الدنيا والآخرة وما نزلت الشرائع, إلا متوائمة مع الطبائع.

 وقد برهن تاريخنا الإسلامي على أن تدخل الخلفاء في تولية القضاء كان من أسباب تفاقم الفساد. بل إن ذلك سر الفساد. إن حقائق الشريعة, لا تخالف ما فطر الله عليه البشر من طبيعة, ومن تصور أن بينهما قطعية فقد جهل إحدى الحقيقتين كيف هذا وهما خلق الله وشرعه، من مصدر واحد.

  فالحكم في الإسلام شوري، ولا يمكن تطبيق هذه الشورية، في الدولة الإسلامية الحديثة، إلا بضمانات وإجراءات، تختصرها عبارة النظام (الدستوري).

-الفرق في الشريعة بين القواعد والتطبيقات:

ولو افتراضنا في نماذج الحكم التي تلت الخليفة الراشدي الصلاح الذاتي والعدالة والاجتهاد الشرعي, لما كان لها حرص الراشدي على المصلحة العامة, فهل وجد الناس حاكماً طوال أكثر من ألف عام, يعتبر من تابعي الراشدين بإحسان, غير عمر بن عبد العزيز؟ أي ما نسبته أقل من 1% من عمر الدولة الإسلامية، لماذا؟.

لأن عدل الخليفة الراشدي وشوراه وفضائله, لم تكن ذاتية محصورة بالجهد الذاتي, بل كان هو نفسه إفراز مجتمع راشد, فصلاحه شديد الارتباط بحقل مجتمعي ذي سياج, يعصمه من الزلل, ويشعل المصباح الأحمر أمامه عند وقوع الخلل.

والإسلام لا يضع قواعد تناسب خصوصية عصر أو مصر أو قوم. إن مبنى القواعد في الشريعة على الأغلب الشائع, لا على القليل النادر, كما بين الشاطبي في الموافقات, وهذا واضح حتى في تشريع الرخص, فقد رخص الإسلام للمسافر أن يجمع ويقصر, وأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام وأن يفطر. بيد أن عدداً من الناس لا يجدون مشقة في الصوم عندما يسافرون, فضلاً عن إتمام الصلاة, ولكن التشريع إنما يراعي أغلبية الأحوال. فالأحكام تشريع للأغلبية لا للأقلية.

بناء على ذلك صار من النادر أن تضمن عدالة القضاء, فضلاً عن عدالة تشريع النظم والقوانين العامة في الدولة, مادام أغلب الخلفاء لا تتوافر فيهم صفات الخليفة ألراشدي, وليس أهمها الاجتهاد, بل لعله أسهل ما فيها فأهم ما فيه هو السور الاجتماعي, ولا داعي إذن لوضع شروط وقواعد لا تناسب عامة الخلفاء, لأن قواعد الشريعة مبنية على مراعاة العموم لا الخصوص, فالنادر لا حكم له. من أجل ذلك لا يصح قياس أي حكومة عليهم.

-لكي لا نؤسلم الطغيان: نظرية الجمع بين السلطات قياس فاسد :

بذلك تنكشف نظرية الجمع بين السلطات الثلاث, نبتة من الفطريات المتسلقة, من التفريعات التي ليس لها من جذور في أصول الدين.

لقد وقع الفقهاء الذين تساهلوا مع الحكم المطلق, في أمر غريب: مثالية الفكرة عندما يتحدثون عن شروط إمام الدولة كما في الأحكام السلطانية لأبي يعلى وللماوردي. ورضوخ الممارسة, عندما يمنحون خليفة عباسياً, عباءة صلاحيات خليفة راشدي.

فهم شرعوا للإمام أن يقبض على أزمة السلطات الثلاث, وفي إطار أذهانهم صورة حقل بدأ فيه نشوء مفهوم الدولة الصحيح العلاقة بالمجتمع وصورة إمام شورى عادل (كالراشدي) في مجتمع مثالي (وفق مفهوم المجتمع المدني الإسلامي وتجمعاته الأهلية).

ثم طبقوا تشريعهم المثالي على سلاطين دول مختلة العلاقة بالمجتمع, غير منتخبة ولا مجتهدة ولا شورية عادلة, ذات مجتمعات مدنية, تكثر فيها التعقيدات, كالدولة الأموية والعباسية, ومن اقتدي بسنتيهما من الدول المملوكية والعثمانية ودول الطوائف الحديثة  طوال العصور, فكيف تعطى أمثال هذه الحكومات الجبرية الجائرة أزمة السلطات الثلاث؟.

لعل ذلك يبين _بمعيار أصول فقه الكتاب والسنة_ تهافت بناء نظرية الجمع بين السلطات الثلاث, في الدولة القديمة أموية وعباسية ومملوكية وعثمانية.

 

18=بطلان قياس  دولة القمع  العربية  الحديثة

على الأموية والعباسية؟: الفوارق الثمان

الأول-  اتساع مجالات سيطرة الدولة على الأفراد والجماعات:

تكرست نظرية الاستبداد في فقهنا الإسلامي, في الصياغة العباسية للثقافة الإسلامية, بصورة تلقائية في ظلال الحكم الجبري الجائر، فكانت الشق الذي تسرب منه سيل العدم, الذي فجر سد(مأرب).

هذا الخلل الكبير في ثقافتنا القديمة، لم يستطع علاجه المصلحون القدامى, من مفكرين وفقهاء, رغم مابذلوه من جهود, وغفل عن الوقوف أمامه مصلحون معاصرون كثير, من فقهاء وسياسيين ومصلحين وغيرهم, لأنهم لم يستطيعوا الخروج من مدار التراث, و لا من مدار الثقافة الاجتماعية السائدة. ولاسيما أن هذا الاختلال ثبت أكاديميا، في كتب العقيدة، بحيث تكون مقاربته صعبة، لأنه يحتاج إلى ثقافة في أصول الدين والعقيدة وفوق ذلك معرض الخائض فيه للاتهام في العقيدة وبقيت أحكام السياسة الشرعية كما هي في الثقافة العباسية دون أن يلاحظه الفقهاء المستعبسون.

   أن تراثنا الفقهي العباسي توقف به الإبداع منذ زمن بعيد, و نحن اليوم أمام واقع جديد تعقدت اليوم طبيعة الحياة, وكثرت المستجدات, وجدت على الناس عادات ومتغيرات, وقد تغيرت طبيعة الدول العربية الحديثة, وتعددت وظائفها.

    كانت وظائف الدولة في العصور القديمة, محصورة في ثلاث: حفظ الأمن الداخلي (بالشرطة) والخارجي (بالجيش), والقضاء بين الناس.

 وظهرت للدولة الحديثة وظائف، تتجاوز دور الدولة السائسة والحارسة, إلى الدولة المسئولة عن التعليم والصحة وسائر الخدمات, والدولة المسئولة عن الزراعة والصناعة والتجارة, والدولة مسئولة عن التوظيف والعاطلين والرعاية الاجتماعية, والدولة المنشغلة بالاقتصاد وهمومه, بل صار من واجب الدولة, أن تحقق لمواطنيها حياة أفضل, في جميع النواحي, والدولة ذات العلاقات الخارجية, وكثرت الاتصالات والمواصلات وتضخم السكان وكثرت المدائن. من أجل ذلك ظهرت مساوئ النموذج العباسي في الحكم والقضاء والإدارة والحقوق والتربية جلية واضحة.

ولم يلاحظ الفقهاء المستعبسون والمتسالفون طبيعة الدولة الحديثة, لأن الدولة الحديثة, كثرت وظائفها, وتعقدت طبيعتها, أن بتوزيع السلطة المطلقة والفصل المرن بين تلك السلطات, مسألة لا بديل عنها إلا استشراء الفساد, وخراب البلاد والعباد. ولم يلاحظوا أن واقع الدولة العربية, منذ العصر الأموي دليل مبين على هذا الخلل الكبير.

ولنفترض من باب المجاراة نجاح الجمع بين السلطات في الدولة القديمة في إقامة حكم شوري عادل, لأن مفهوم الدولة في العصور القديمة, لم يكن واسعا, تتركز وظيفتها في ثلاث: حفظ الأمن الداخلي والخارجي والقضاء, فكيف يمكن أن نقيس عليها نموذج الدولة العربية والإسلامية الحديثة؟ والدولة الحديثة لا يمكن أن يقوم لها كيان, في ظل الجمع بين السلطات, ولا بد مـن تغيير فـي طبيعتها، بتقســيم الســلطة وتفريعها, لكي تتوائم طبيعة الدولة مع التغيرات الكبرى في وظائفها, التي ينبغي أن نتذكر  أهم ملامح طبيعتها ووظيفتها بإجمال:

فقد اتسعت وظائف الدولة الحديثة الشاملة, إلى الخدمات, كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية, وإنشاء الطرق البلديات, والعناية بالاقتصاد والصناعة والزراعة, فتضخمت سلطتها, وصار من الخطورة أن تكون سلطتها مطلقة, في سن القوانين والأنظمة واللوائح, التي قد تضيق على الأفراد والجماعات, وتقيد حقوق الإنسان  (انظر عبد الله النفيسي:الحركة:48).

       فالحكومة هي التي تصدر شهادة الميلاد, وهي التي توافق أولا توافق على اسم الطفل, فالولادة بشهادتها, والوفاة بشهادتها, والزواج بإذنها, والسفر بإذنها, والمرور بين المدن -وضواحيها أحياناً- بحواجز, وكل شيء صار بحاجة إلى إذن وفسح وتأشيرة, وهي التي تقرر الخطط الزراعية والصناعية, وعشرات الأمور الكبرى ومئات الأمور الصغرى. بناء عليه فإن أي حكومة مستبدة ستخل بوظائف الدولة.

إن تركيز السلطة يؤدي إلى الإفراط في استعمالها, هذا مبدأ لا ريب فيـه وإذا استأثرت الحكومة بالتشريع والتطـبيق معاً في هـذه الأمور دون توزيع للسلطة يحـدد وظيفة (الحكومة) بصفتها جزءاً من (الدولة)، لا بديلا عنها، ولا مركزا لها. ولا يخلط بين المصطلحين، ولا بين وظيفة كل منهما. ستنتهك حريات المواطنين وحقوقهم، وحرمة المال العام وصلاح الإدارة وتفريط في سيادة الدولة. باسم النظام والقانون، الذي لا يستمد مشروعيته إلا من كون الحاكم هو القانون نفسه.

الثاني:- وسيطرتها على التربية الاجتماعية

 وسيطرت الدولة العربية اليوم على التربية الاجتماعية عامة والتربية التعليم خاصة, فلا يدرس أحد في المدرسة حتى الجامعة؛ إلا المناهج والمعلومات والأفكار التي تريد, فصارت معلمة الشعب من خلال المدرسة, التي يبدأ طابورها الصباح بذكر اسم الحاكم, وكأنه ورد الصباح, وكأن  الأمة مخلوقة من أجل الطواف بتمثاله, عليها واجبات وليس لها حقوق, وصارت إجازة التعليم اللازمة للتوظيف بختمها. فصارت تكتب التاريخ على هواها، وتكتب مفهوم المواطنة كما تريد، فضلا عن علوم الإدارة والاقتصاد والسياسة والعقيدة.

الثالث:سيطرتها على التربية والتعليم:

والحكومة إذا استبدت قادرة على أن تفسد التربية الاجتماعية أيضا في البيوت والمجالس والنوادي ووسائل الترفيه, قادرة على تربية الناشئة تربية فاسدة, تجعلهم نسلا رديئا لا يكافح عن دين, ولا يذود عن عرين, إن هم إلا كالنبات الرخو, في تجاويف الكهوف والغيران.

الرابع- وسيطرت على قنوات الإعلام والتوجيه

وسيطرت على قنوات الإعلام والتوجيه, والإدارة والصناعة والتجارة, وعلى آلياتها وأطرها.

وسيطرت على قنوات الإعلام والتوجيه, فصار من المتوقع أن تزيف الحقائق, وتمارس قهر الوجدان والعقل والسلوك معاً، بصورة تجعل الناس يرون المنكر السياسي معروفاً والمعروف السياسي منكراً, والقمع والهوان خيراً, والحرية والكرامة شراً، والسكوت عن المنكرات السياسية حكمة ومواطنة صالحة.

وصار الإنسان لا يستطيع أن يتكلم في مسجد أو مدرسة, ولا في ميدان أو منتدى، إلا برخصة منها, وصارت الدولة العربية تصنع على عينها، أهل الثقافة والعلم والفكر والدين، ترغيباً وترهيباً وتغريراً, حتى ترى كثيراً منهم بوقاً إعلامياً للحاكم، في الخطب الموسمية والمناسبات الرسمية, أو منعزلاً عن الناس محاصراً، في زاوية الضرورة والإسقاط والإحباط والسلامة الذاتية.

الخامس:- أطراف الإخطبوط (السلاح التقني الرهيب):

  ويضاف إلى هذه الأمور أمر سادس, فقد تطورت وسائل هيمنة الدولة، بأجهزة وأسلحة تقنية ذكية خطيرة, عسكرية وبوليسية, مدججة بالرشاشات والمدرعات والدبابات. إنها أسلحة رهيبة، كلها مركزة في يد الحاكم، أجهزة لا يتاح لأفراد الناس معرفة أسمائها، فضلا عن إمكان حملها وحيازتها. هذه الأجهزة زادت الطغيان قوة، فكيف ترد الدولة إلى رشدها، عندما تنحرف عن جادة القانون (الأنظمة السياسية: يحي الجمل:104)، إذا كانت السلطة مستبدة مطلقة, وأصبح المجتمع فيها أعزل, محروماً من القدرة على إبداء أبسط مقاومة, أمام أفظع ظلم. فصار الأفراد والجماعات, لا يستطيعون من ظلمها الخلاص, وإن لا أبادتهم وسحقتهم, مادياً ظاهراً, ومعنوياً مستوراً.

السادس:ـ وسيطرت على أجهزة المواصلات والاتصالات

 وسيطرت على أجهزة المواصلات والاتصالات, كالهواتف والانترنيت, وتستطيع أن تجعل منها أدوات وهيبة, تغتال العيون والأفئدة, بوسائل أكثرها خفي سري, وتحدد مساحة كل رئة, إذ من خلالها يمكنها أن تسترق السمع على البيوت والمجالس والمجامع, والمساجد والجامعات والجوامع, والمنتزهات والفنادق, فتحول نظام المراقبة من شخصي بشري, إلى تقني آلي, وصار الإنسان مقيداً بهذه الأنظمة القامعة من المهد إلى اللحد.

السابع – الهيمنة على الاقتصاد واستنزاف  الثروة الطبيعة وورهن مستقبل الأجيال بالديون:

وأمر ثامن أدهى وأمر, ولاسيما على الأجيال القادمة, فقد تطورت التقنيات في استثمار الثروة الطبيعة اليوم, فأمكن استخراج المياه والمعادن من باطن البر والبحر, وصارت الحكومات, تتحكم في ثروات الأمة الحاضرة, وثروات الأجيال القادمة من ماء ومعادن وبيئة.

وبذلك تصبح الثروة في البلدان الشورية العادلة, كإنجلترا أو أمريكا سلما للعزة والقوة, وتصبح الثروة في بلدان التخلف و الاستبداد, معينة على الإسراف والانتهاب, أو سلما للتردي في حروب البسوس وداحس والغبراء.

الدولة إذا استبدت قادرة على تلويث الجو بالقنابل وآلات الدمار, فتهلك الحرث والنسل, وتدمر البيئة الفـطرية, وتحول الرياض الخضر إلى صحارى جرد، فتجعل الأجيال القادمة أسرى الأمراض الغريبة والمتوارثة، في حروب الخليج أوضح مثال.

وتنجر الدولة الجبرية إلى اقـتراض ديون كبيرة, قد تنفقها من دون توازن, ولا مراعاة للأولويات, بل تهتم بالثانويات كإشادة الملاعب ومظاهر الحضارة والقصور والملذات كما فعلت حكومات عديدة, وذلك يجعل الدولة مرهونة للمقرضين, فتحمل الأجيال القادمة ذنوبها, وترهن إرادة البلاد والعباد، للدائنين والمرابين الدوليين, كما فعل إسماعيل الخديوي لمصر, ففتح المجال للإنجليز لاستعمار مصر, فاستعمروها محتجين بعجزها عن سداد ديونهم، فتترك الأجيال القادمة في مستنقعات من الفقر والهوان في أسواق الشحاذة والنخاسين.

الثامن: ضعف الحكومات العربية في عصر الهيمنة الإفرنجية والمعاهدات السرية:

ولقد كانت الدول العربية الإسلامية القديمة المستبدة الجائرة غالبة, ذات إرادة حرة عزيزة, وكان الحاكم العباسي الجبري الجائر, كهارون الرشيد والمعتصم يجسد عزة العالم الإسلامي في عصره، محافظاً على هيبة الأمة, يسمع كلمة (وامعتصماه) في قلب بلاد المعتدين, فيغزوهم مغيثاً من استغاث من أجل ذلك صبر أمثال الإمام أحمد على جوره، وأطلق كلمات خاصة مقيدة بزمنها ومناسباتها.

  أما الدول العربية والإسلامية اليوم في عصر الطوائف الجديد فمغلوبة, والهيمنة إنما هي للأمم غير الإسلامية، وإذا كانت مقاليد السلطات الثلاث في قبضة الحاكم الجبري الجائر في الدولة العربية  المغلوبة؛ أمكن الدول الكبرى استغلاله أو توريطه, عبر أساليب عديدة, تحفل بأسرارها كتب الجاسوسية والمخابرات, والوثائق التي تنشرها الدول الغربية -إن لم تكن بالغة السرية- كل حين, وهذا يؤدي إلى أن يتصرف الحاكم بالبلاد, وكأنها ملك لا شريك له فيه, وكأنها أرض ورثها عن الأجداد, وأن يتصرف بالعباد, وكأنهم ماشية اشتراها من المزاد.

  وإذا كانت الحكومة مستبدة؛ ربطت الدولة بمعاهدات أجنبية سرية أو علنية, ظاهرها التعاون, وباطنها التهاون, إن لم يكن التفريط بالسيادة, ودوس كرامة الأمة, ونحو ذلك من المخزيات التي لا يعلم بها الناس, حتى يأذن المستعمرون بنشرها بعد خمسين سنة, (إن لم تكن خطرة جداً)، فيرهن الحاكم الجبري مستقبل العرب والمسلمين لدول غاشمة, لا تخاف فيهم ربا, ولا تراعى لهم عهداً, ولا تراقب فيهم ضميراً, كما فعل مصطفى كمال, في معاهدة (لوزان) الهوان, وكما فعلت حكومات خليجية عديدة.

وإذا استبد حاكم الدولة الضعيفة, ولم يعد يسمع إلا صوته , غررت به الدول الأجنبية الكبرى, فسهل على أعدائه اصطياده وإيقاعه في الفخ, كما صنع الغرب مع عبد الناصر عندما قادوه إلى مضائق تيران, ومع عرب الخليج والعراق؛ عندما قادوهم إلى الفخ الأول: حرب في إيران, الذي تداعت به المآسي والأهوال.

من أجل ذلك يصبح توزيع السلطات, فريضة سياسية شرعية, لا مسألة مباحة أو مندوبة فحسب, في كل دولة عربية أو إسلامية, لأن وسائل صيانة الأمة, أفراداً ومجتمعاً   ودولة, لا يمكن اليوم أن تتوافر إلا بها. ويصبح طغيان الدولة الإسلامية المعاصرة، أي إخلالها بمبادئ السياسة الشرعية ولاسيما المبادئ السبعة ولاسيما الحرية السامية والشورى الشعبية أي التزام الحاكم برأي أهل الرأي والتدبير والحل والعقد المفوضين. من نواقض الإسلام الكبرى، لما يترتب عليه من تفريط بدين الأمة وتربيتها ومالها وعزتها.

19=لا ضمان لقيام (حكم إسلامي) اليوم إلا بالفصل بين السلطات

-الآلات والوسائل لها حكم المقاصد والغايات

الوسائل لها حكم الغايات، كما قرر الأصوليون- ما لم تعارض الوسائل تحقيق المقاصد، فإذا عارضت الوسائل مقصداً شرعياً فلا عبرة بها، كمسألة تعذيب المتهم، فالتعذيب قد يؤدي إلى معرفة المجرم، ولكن الوسيلة مرفوضة شرعاً، لسببين: الأول قد يعذب مئة من دون وجه حق، بسبب جريمة واحدة، الثاني ان المتهم يقر تحت التعذيب بما نسب إليه لو لم يفعله. حاصل ذلك أن هياكل الحكم الدستوري كضمانات استقلال القضاء واجبة، لأن العدل لا يتحقق في الدولة الحديثة إلا بها. من أجل ذلك فإن من الفقه في الدين؛ أن ينادى بالفصل بين السلطات.

النظام الدستورى إطار تطبيق شرطي العدل والشورى:

ولا يمكن استقلال القضاء من دون تطوير نظام الحكم الملكي من صيغة مطلقة الصلاحية إلى “صيغة دستورية” مقيدة بالاختصاص والمساءلة، يقرر الدستور فيها أن الأمة هي المخولة بتحقيق مقاصد الشريعة ويقرر أن السلطة التشريعية لنواب الأمة، وتحدد فيها سلطات السلطة التنفيذية، يفصل بين السلطات الثلاث، ويحدد مرجعية كل سلطة، ويمايز بين صلاحياتها وتنتشر قيم المجتمع المدني، وتقوم هياكله الأهلية. إن النظام الدستوري نظام محايد، فهو الوسيلة المناسبة لإقامة ميزان العدل والمشاركة الشعبية، سواء كانت الدولة إسلامية أم غير إسلامية، سواء كان النظام ملكياً أم جمهورياً، سواء أسمي الملك إماماً أم خليفة أم أميراً للمؤمنين.

والرئيس أو الملك فيه هو رأس الدولة كلها، فهو رأس الدولة عامة والتنفيذية خاصة، وهو الممثل الأسمى للدولة، وهو الإمام المكلف بسياسة الدولة وحراسة الملة، وهو رمز وحدة الدولة والأمة والوطن، وهو رمز شرعية الحكم، وراعي حقوق المواطنين وحرياتهم، أفراداً وجماعات، وهو الذي يعين الوزراء وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين، وهو الذي يبرم المعاهدات الدولية، وهو الذي يعلن حالة الطوارئ، وهو الذي يعين القضاة، وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، ورئيس ديوان المحاسبة. ويملك الحق في إيقاف مجلس الأمة، عندما يتعذر التعاون بين الملك والسلطة التنفيذية من جانب، ومجلس الأمة من جانب آخر، ميزة النظام الدستوري أنه يضبط هذه الصلاحيات بتوازنات.

ولا يمكن تحقيق العدل والشورى إلا من خلال النظام الدستوري، ولا يمكن أن يقوم الحكم الدستوري من دون أن يتعزز استقلال القضاء، فاستقلال القضاء واجب، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وهو يجدد وسائل تطبيق الشريعة، بآليات وإجراءات وهياكل حديثة، وهذه الإجراءات الدستورية الخمسة منها استقلال القضاء، واستقلال القضاء لا يتعزز إلا في إطار الفصل بين السلطات الثلاث، وقيام السلطة النيابية، وتحديد السلطة التنفيذية، وانتشار ثقافة المجتمع المدني قيماً ونظماً وهياكل أهلية.

أركان الدستور الخمسة:

يقوم النظام الشوري على أن سلطة الأمة التمثيلية إنما هي لأهل الرأي والعقل والخبرة على العموم -لا للفقهاء والأمراء على الخصوص- في تحقيق مقاصد الشريعة، فالأمة هي المخاطبة بالتكليف، ولأن الوسائل المباشرة ليست ممكنة ولا عملية في إطار الدولة، صار من الضروري الإنابة والوكالة،فصار الحاكم وكيلا عن الأمة. ولكن لكي لا ينحرف الحاكم من وكيل للأمة إلى وكيل عليها، يستخدم جيشها وبوليسها لتخويفها وتدميرها، ومالها وأراضيها لآله وحاشيته، لا بد من توزيع مقاليد السلطة؛ كما يلي:

الأول-أن يكون القضاء سلطة مستقلة عن سلطة الحاكم، تعيينا للقضاة ونقلا وفصلا وتقاعدا، وقواعد قضائية وتطبيقا.

الثاني-قيام سلطة نيابية تمثل الأمة، هي مجلس نواب الأمة، بتشريع النظم المعمول بها في الدولة، ومراقبة أداء الأجهزة الحكومية، ومحاسبة من يخل بواجبات الوظيفة العامة.

الثالث-حصر وظيفة السلطة التنفيذية بالتنفيذ.

الرابع- والفصل بين السلطات الثلاث. وتقرير هذه الحقوق بقوانين يقرها مجلس نواب الأمة.

الخامس-قيام الأمة بحراسة مجلس النواب واستقلال القضا، عبر تواجدها في جماعات مدنية أهلية، وعبر تفاعل جماعات المجتمع المدني الأهلية، وحرية الأمة في تكوين جمعيات ونشاطات، وتعبيرها الحر عن مصالحها، عبر وسائل الثقافة والإعلام، وقيامها بالتعبير عن ارادتها عبر التجمع والتظاهر والاعتصام ونحوها من الوسائل السلمية، لأن هذه الوسائل الشعبية هي السور الذي يضمن ما عداها من وسائل غير مباشرة.وهذا هو أساس قيام الأمة، بتوزيع السلطة، إلى ثلاث شعب، بدلاً من الحكم الفردي المطلق و الفصل بين السلطات الثلاث مقتضى الحكم بالحق، وهو نقيض إتباع الهوى ، لأن في ذلك سعادة الدارين.

20=والخلاصة أنه لا يمكن أن يصح وصف الدولة الحديثة بأنها إسلامية ما لم تكن دستورية، والدليل على ذلك :

الأولى: أن الأمة المسلمة هي المخولة بتطبيق الشريعة، لا الأمراء والفقهاء(كما نص ابن تيمية).

الثانية: أن الأمة أدرى مصالحها، وهي ولية أمر نفسها، وتتعرف على مصالحها من خلال من تقدمهم -هي- من عرفائها، وأهل الرأي والخبرة فيها.

الثالثة: أن للأمة القوامة على حكامها ليس الحاكم إلا وكيلا، تعينه وتعزله بإرادتها. فلا يصدر الحاكم في أي أمر من شئون الأمة، ولاسيما الشئون الكبرى، إلا عن مشورة الأمة.

الرابعة: لا يمكن ضمان مشاورة أهل الحل والعقد إلا بكونهم منتخبين، في (مجلس نواب منتخب).

الخامسة:القاضي في محكمته-ليس وكيلا عن الحاكم- بل وكيل عن الأمة، فلا بد من استقلال القضاء وأي قضاء غير مستقل؛ فإنه غير نزيه.

السادسة: لا يلتزم كل من الحاكم والقاضي بالعدل، بأن تراقب الأمة تصرفاتهما وتحاسبهما ما لم يقرر مبدأ الشفافية، في الإدارة السياسية والاقتصادية..

السابعة: لا يضمن: لا يضمن أن أنه لا يمكن أن يضمن الناس حقوقهم السياسية، من دون الفصل بين السلطات.

الثامن:. لا يمكن تحقيق مبدأ العدل والمساواة، حق الشعب في الرقابة على الدولة والحكومة ومحاسبتها، في جميع القرارات، ولاسيما  انتهاكات المال العام.من دون شورى، وقرر حق الأفراد في التعبير عن أرائهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.ولا تضمن الشورى من دون حرية الرأي والتفكير والتجمع والتسامح والتعددية،

التاسعة: ولا يمكن ذلك من دون قدرة الناس على انتزاع حقوقهم المدنية؛ بنهجهم السلمي، عبر البيانات وتكوين الجمعيات الأهلية والاعتصامات، وذلك هو قيام المجتمع المدني الإسلامي.

وقيام المجتمع المدني الإسلامي؛ يعنى قيام الدستور الإسلامي المنشود،فالإطار الدستوري، هو الوسيلة الوحيدة  للمفهوم الشوري للحكم.

ومن الغريب أن لما نادى المنادون بالدستور في عهد استعمار بريطانيا مصر؛ كان مفهوم الدستور تطبيق العلمانية، بذلك نفهم كلمة حسن البنا في زمن المناداة بالدستور، عندما أجاب: القرآن دستورنا، وهي كلمات حق خشي فيها الدعاة آنذاك الزمن، أن الاستعمار البريطاني يريد أن يفرض على المسلمين دستورا يعتبر العلمانية عقيدة كما فعل أتاتورك في تركيا.

 ولكن الكلمة ليست صحيحة إذا أطلق اللفظ عن مناسبة المقام، لأن الدستور لايبيح شيئا ولا يحرمه، إنما الناس من خلاله يطبقون شريعتهم،  الأوربيين كانوا يفعلون هذه المعاصي قبل الدستور، وأنهم يفعلونها لأنها هي الأعراف المستقرة في نظامهم الاجتماعي، فكانت لحملة هؤلاء على الدستور،سبب خاص، وغفل من بعدهم عن المقام. 

 ولكنه لم يكن يريد أن القرآن دستور(بالمعنى الحقيقي للدستور) فالدستور أساس نظام الحكومة، أيا كانت، وعندما تصاغ كلمته بعيدا عن مناسبتها تكون: القرآن والسنة وتطبيقهما النبوي والراشدي (أساس) دستورنا.

وهذه الأمور هي مضمون مصطلح: البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أجل ذلك نص الفقهاء كابن عطية؛على أن شرطي البيعة هما:العدل والشورى.

وكل هذه الأركان تقوم على محور الشورى، فحبث تكون الشورى قطبا تدور حولها الأركان الأخرى، وبقدر ما يصيب محور الشورى من عطل، تعاني الدوارات في مداره من شتى العلل.

ولذلك عبر في الآيات والأحاديث عن اختلال شروط إسلامية القضاء والحكم بالكفر، على أن كفر الإلحاد غير مقصود في الآيات والأحاديث، في مثل قول الله تعالى”ومن لم يحكم بما أنزل الله فؤلائك هم الكافرون”،وقوله صلى الله عليه وسلم”لا ترجعوا بعدي كفار يضرب بعضكم رقاب بعض”. ومن ذلك وصف الرشوة بالكفر‘ في ما رواه التابعي مسروق عن ابن مسعود -موقوفا-“من رد عن مسلم مظلمة فأهدى له عليها ، قليلاً أو كثيراً ، فهو السحت . فقلت: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم، قال: ذلك كفر”.وقول النبي صلى الله عليه وسلم”سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”

وإنما المقصود-في مثل هذه النصوص- تشبيه الحرب الأهلية والظلم والاستبداد، بكفر الإلحاد، تنبيها على فداحتها وشناعتها، ووجوب قيام الناس جميعا، خفافا وثقالا بالجهاد السلمي لمحاربة الاستبداد. ولعل عبارة نظام حكم كسروي أو قيصري، أقرب للتعبير عن شناعة المعاصي السياسية، من دون إيحاء بكفر الإلحاد. ولعل من مراعاة أفهام الناس أن لانركز على هذا الوصف، لأن كثيرا من الناس يفهمون منه كفر الإلحاد، المخرج من الملة، ويضعونه في مفهوم الجاهلية، وهذا يجر الغافلين والجاهلين بالمعاني الثانوية للجاهلية والكفر في القرآن والسنة، الذين يتصورونهما كل ما وردا بمعنى الشرك الأكبر،وكفر الإلحاد،موغلين في  تكفير المسلمين واستحلال دماء الأبرياء.

21=وللدولة حقوق إزاء تلك الواجبات:

وجوب طاعة أمراء العدل والشورى

لا بد للناس  من دولة ذات سلطة مادية ، تقوم بحفظ الأمن وتنصب القضاء وتطبق أحكامه على الكافة ، وتقيم الحدود ، وتحفظ الأمن وتحفظ للناس حقوقهم الطبيعية المشروعة . والأمرة مشروعة في الشريعة ، حتى بين الأفراد والجماعة.

ولذلك أمر الإسلام بان تولي الجماعة أميراً عليها، في كل حال، حتى حالة السفر، قال صلى الله عليه وسلم ” إذا خرج ثلاثة في سفر ، فليؤمروا احدهم ” وقال أيضا
(لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من ارض ، إلا أمروا عليهم احدهم ” ، فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر ولذلك جاءت الأمارة في وظائف الأنبياء ، كما قال تعالى ” يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فاحكم بين الناس بالعدل”.

وحذر الإسلام من اختلاف الأمة على الحاكم ، ودعاها إلى طاعة الحاكم وتقديره، ما دام قائما بحفظ حقوقها المشروعة ، وحذر الإسلام من مات خالعا بيعة الحاكم بانه في النار ، وأمر بقتل من خرج مفرقا بين الأمة ، فقال ” أيما رجل يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه ” ( رواه النسائي ) ؟.

ولكن الإسلام حدد طاعة الحاكم بأنها في إطار طاعة الله ، فطاعة الحاكم من طاعة الله ، فإذا أمر بمعصية كحيف فى توزيع المال أو حيف فى الإدارة فلا سمع ولا طاعة . كما قال الرسول الكريم ” من أمركم من الولاة بمعصية ، فلا تطيعوه”   ( رواه ابن ماجه واحمد والحاكم). وقال أيضا في ما رواه ابن عمر ” على المرء المسلم السمع والطاعة ، في ما أحب وكره ، ما يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ”  ( رواه مسلم ). وفي الحديث أيضا ” إذا أمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة “، لأنه كما فى القاعدة النبوية ” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” ومن اجل ذلك بين ابن تيمية وغيره كابن عطية ، ان مقتضى البيعة على الكتاب والسنة ، التزام الحاكم بالعدل والشورى.

 

 

4 thoughts on “الحقوق السياسية في الاسلام”

Comments are closed.

مواضيع مشابهه

خطاب إلى أمير القصيم من وكلاء بعض المعتصمات أمام محكمة بريدهخطاب إلى أمير القصيم من وكلاء بعض المعتصمات أمام محكمة بريده

بسم الله الرحمن الرحيم   التاريخ: 19/12/1433هـ الموضوع : اعتقال مجموعة من المحتجات على الاعتقال التعسفي لذويهن أمام محكمة بريدة صورة إلى / خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن

إقـرأ المزيدإقـرأ المزيد

بيان الجلسة الخامسة من محاكمة عضو جمعية حسم: فوزان الحربيبيان الجلسة الخامسة من محاكمة عضو جمعية حسم: فوزان الحربي

بســــم الله الرحمن الرحيم بيان عن الجلسة الخامسة من المحاكمة السياسية للمدافع عن حقوق الإنسان والمطالب بالإصلاح الدستوري وسلطة الأمة المهندس: فوزان بن محسن الحربي وهو من الأعضاء المؤسسين لجمعية

إقـرأ المزيدإقـرأ المزيد

الجمعية تدين بشدة قمع وزارة الداخلية مظاهر التعبير السلميالجمعية تدين بشدة قمع وزارة الداخلية مظاهر التعبير السلمي

بسم الله الرحمن الرحيم الجمعية تعلن تأييدها الكامل للمطالب المشروعة للمعتصمات أمام وزارة الداخلية وتدين بشدة قمع وزارة الداخلية مظاهر التعبير السلمي التي تجلت في محاصرة المتظاهرات ثم اقتيادهن لإدارة

إقـرأ المزيدإقـرأ المزيد