المزيد من الحريات العامة هي السياسة المثلى لاستئصال بؤر الإرهاب المحلية؟

د.محمد فهد القحطاني

خرجتُ ذات مساء من منزلي داخل الحرم الجامعي في إحدى الجامعات الأمريكية التي كنت أدرس بها في منتصف التسعينات لقضاء بعض الحاجيات من المحال التجارية القريبة وكنت مرتدياً، على غير العادة، ملابس عربية تقليدية نظراً لقرب المنزل ولتعود رواد الجامعة على رؤية هذا النوع من الملابس. إلا أن المارة في الطرقات وأصحاب المحلات أصبحوا يرقبونني بنظرات طويلة ثاقبة مملوءة بالشك والارتياب مما أثار لدي الحيرة والتعجب والتي تبددت فور عودتي للمنزل ومشاهدتي لأخبار المساء والتي سيطر عليها خبر وقوع انفجار هائل في مدينة أوكلاهوما سيتي راح ضحيته المئات من الأرواح البريئة

. أتى هذا العمل الإرهابي في سياق سلسلة من أحداث العنف المنظم التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية خلال حقبة التسعينات، لكن أبرز ما يميز ذلك الحدث هو اعتراف المتابعين للشأن الأمريكي بوجود نشاطات إرهابية لجماعات محلية عوضاً عن الاعتقاد السائد بأن المتورطين دائماً هم أطراف أجنبية. وجدت الأجهزة الأمنية نفسها في مأزق حقيقي يتمثل في كيفية التوصل لآلية تستطيع من خلالها الحفاظ على الحقوق الدستورية للمواطنين وفي نفس الوقت تمكنها من متابعة ومراقبة والقبض على الأفراد المتورطين في نشاطات العنف المنظم. على سبيل المثال أصبحت الميليشيات المسلحة في غرب الوسط الأمريكي تشكّل هاجس على أمن البلاد وأصبح واضحاً لدى صناع القرار آنذاك أن التعامل الأمني، الذي يقتضي تجريد تلك الجماعات من السلاح، أمراً مستحيلاً نظراً لمخالفته لبنود الدستور هذا بالإضافة إلى أنه يخلق لدى تلك الجماعات حالة من عدم الثقة والتوجس مما قد يترتب عليها تحويل نشاطاتها إلى خلايا وتنظيمات سرية تكون الرقابة على تحركاتها ومتابعتها في غاية الصعوبة. لذا فقد كان الخيار المتاح هو تطبيق سيادة القانون والذي يتطلب المزيد من الشفافية وحماية الحريات الفردية خصوصاً حق الانتساب للجماعات المختلفة والتأكيد على مبادئ سلطة الشعب على النظام السياسي وعدم استثناء أصحاب الصلاحيات من المحاسبة والعرضة للعقاب حتى لا يكون هناك سوء استغلال للسلطة ومصادرة للحريات العامة تحت غطاء الحفاظ على الأمن الوطني.
كان ذلك الخيار صائباً لاسيما أنه يرتكز على مبدأ سيادة القانون الذي يعد حجر الزاوية في البلدان الديمقراطية لصيانته حقوق وحريات المواطنين وفي نفس الوقت يمنح الأجهزة الأمنية القدرة على ملاحقة أولئك الذين يخالفون الأنظمة والقوانين واعتقالهم وعرضهم على المحاكم. لقد تولدت لدى الخبراء قناعة أن العنف والعنف المضاد، من خلال تزايد وتيرة القمع وتقليص هامش الحريات، يدخل البلدان في دوامات من انعدام الأمن وتراجع مؤشرات الحياة الكريمة والتدخل في خصوصيات الأفراد ويكون لذلك عواقب سياسية واقتصادية وخيمة. لذا فإن فقهاء القانون يؤكدون أن تعرّض الأفراد للاعتقالات العشوائية ومصادرة الحقوق المدنية والقانونية لا تكون إلا عندما يكون هناك خطر حقيقي، يتمثل في حدوث حرب أهلية أو اجتياح أجنبي، يهدد أمن الوطن وسلامة المواطنين ولكن تلك الإجراءات تكون محصورة في بعد زمني ومكاني محدد. لذا فإن عبر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الطويل لم تتم فيه مصادرة حق الأفراد في تحدي والاعتراض القانوني على قرارات الاعتقال إلا في أربع حالات، كانت الحالة الأولى أبان الحرب الأهلية التي وقعت في أوائل ستينات القرن التاسع عشر والتي كان الجيش الاتحادي يطلب فقط من المعتقلين إعلان القسم بالولاء للإتحاد أو دفع غرامة مالية بسيطة مع التعهد بعدم العودة للقتال. أما الحالة الثانية فكانت في العام 1870 م عندما ازدادت نشاطات المنظمات العنصرية في الجنوب الأمريكي والتي أصبحت تستهدف الملونين خصوصاً في ولاية كارولينا الجنوبية وكان الهدف هو إعطاء دفعة للأجهزة الأمنية حتى تستطيع ملاحقة أصحاب العنف ومن ثم تستطيع حماية أرواح وممتلكات المواطنين. الحالة الثالثة وقعت فصولها أبان الحرب العالمية الثانية عندما هاجمت الطائرات الحربية اليابانية شواطئ ولاية هاواي الأمريكية وكان هناك مخاوف من حدوث اجتياح عسكري ياباني فقامت السلطات الأمريكية آنذاك بحملة اعتقالات ضد من تعتقد بأن وجوده قد يشكل خطر على أمن البلاد. وأخيراً ما حدث بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما ترتب على ذلك من حملة اعتقالات وتعذيب وتعطيل قوانين الحريات والحرمان من حقوق الاعتراض القانوني وعدم السماح بتحدي قرار الاعتقال في المحاكم، والذي أعلنت الإدارة الأمريكية الحالية إلغاء كافة تلك الإجراءات التعسفية والتي تنتهك أبسط حقوق الإنسان وتحط من كرامته. إن تجربة الولايات المتحدة الأمريكية الناجحة في احتواء الجماعات المسلحة والقضاء على بؤر الإرهاب المحلية تؤكد بشكل جلياً بأن أنجع وسيلة لاستئصال العنف هو من خلال منح الأفراد والجماعات المزيد من الحريات العامة وتقليص سياسات القمع والحد من الاعتداء على خصوصيات المواطنين.

1 thought on “المزيد من الحريات العامة هي السياسة المثلى لاستئصال بؤر الإرهاب المحلية؟”

  1. د محمد بتسلم عليك
    مقال جميل
    الظاهرة الملفتة ميل بعض
    الجماعات البشرية للعنف غير الموجه
    اي الرغبة في القتل دون سبب
    كما حدث في مجازر الهوتو والتوتسي
    وكذلك حروب نابليون وهتلر وموسوليني
    وماوتسي تونج وغيرها التي هلك بسببها الملايين
    لماذا هذه الرغبة الحارة في القتل
    لماذا هذا التطوير المستمر لأسلحة الدمار الشامل
    متى يتوقف الانسان عن نحر الانسان
    هل الحرية وحدها تكفي
    هل المعرفة المجردة كافية
    هل من حل????????

Comments are closed.

مواضيع مشابهه

الحرية السياسية أم الحقوق كافةالحرية السياسية أم الحقوق كافة

د. عبدالله الحامد الحرية السياسية أم الحقوق كافة/قيام أحزاب سياسية حتى لو كانت غالية هو معيار إسلامية الحكم أ=قاعدة حق المعارضة السياسية ودليلها : كفل الإسلام حرية المعارضة السياسية، وأجاز

إقـرأ المزيدإقـرأ المزيد

كيف نحصل على حقوقنا في ظل الانظمه الغير ديمقراطيهكيف نحصل على حقوقنا في ظل الانظمه الغير ديمقراطيه

( نواة هذه المحاضره القيت في اثنينية ثقافة المجتمع المدني يوم الاثنين 8/9/2008 ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , الحمد لله الذي من علينا بالجرأة في

إقـرأ المزيدإقـرأ المزيد